٧٩- أشتد الاختلاف بين الطوائف المسيحية الأولى، وتباعدت مسافات الخلف تباعداً شديداً، لا يمكن أن يكون معه وفاق، وكان الاختلاف يدور حول شخص المسيح، أهو رسول من عند الله فقط، من غير أن تكون له منزلة أكثر ممن له شرف السفارة بين الله وخلقه، أم له بالله صلة خاصة أكبر من رسول، فهو من الله بمنزلة الابن، لأنه خلق من غير أب، ولكن ذلك لا يمنع إنه مخلوق لله، أنه هو كلمته، ومن قائل إنه ابن الله، له صفة القدم، كما لله تلك الصفة، وهكذا تباينت نحلهم، واختلفت، وكل يزعم أن نحلته هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها المسيح عليه السلام، ودعا إليها تلاميذه من بعده، ويظهر أن ذلك الاختلاف، وتلك النحل المتباينة المتنازعة، وقد ظهرت بعد أن دخلت طوائف مختلفة من الوثنيين من الرومان، واليونان، والمصريين، فتكون في المسيحية مزيج غير تام التكوين، غير تام الإتحاد والامتزاج، وكل قد بقى عنده عن عقائده الأولى ما أثر في تفكيره في دينه الجديد، وجعله يسير على مقتضى ما اعتنق من القديم من غير أن يشعر أو يريد.
وممن دخل في ذلك الدين فلاسفة لهم آراء فلسفية أرادوا أن يفهموا ما اعتنقوه جديداً على ضوئها، وعلى مقتضى منطقها وتفكيرها.
ولقد كانت تلك الاختلافات كامنة لا تظهر مدة الاضطهادات الرومانية، لأنهم شغلوا بدفع الأذى، ورد البلاء واستقبال المحن والكوارث، وكانوا يستسرون بدينهم ولا يظهرونه، ويخفون عقائدهم، ولا يعلنونها، حتى إذا رزقوا الأمان، ونزلت عليهم سحائب الاطمئنان ظهرت الخلافات الكامنة، وإذا هم لم يكونوا متفقين إلا في التعلق باسم المسيح، والاستمساك بالانتساب إليه، من غير أن يتفقوا على شيء في حقيقته، ولذا لما منحهم قسطنطين عطفه، واعتزم الدخول في النصرانية، ووجد هذا الاختلاف الشديد، أمر بعقد مجمع نيقية.