في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم، فقال: أن سبب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة، وتفحصنا كتب الإسناد لهم، فما رأينا فيها شيئاً غير الظن، يقولون بالظن، ويتمسكون ببعض القرائن. وقد قلت أن الظن في هذا الباب لا يغني شيئاً، فما داموا لم يأتوا بدليل شاف، وسند متصل فمجرد المنع يكفينا, وإيراد الدليل في ذمتهم لا في ذمتنا". وفي الحق أن تلك الاضطهادات جعلت كل عمل يقومون به في شئونهم الدينية - وخاصة ما كان متصلاً ببيان الشريعة يقومون به سراً لا جهراً، وفي خفية من العيون المتربصة، والأعداء المترقبين، والسرية يحدث في ظلمتها ما يجعل العقل غير مطمئن إلى ما يحكى عما يحدث فيها، فيتظنن في كل ما يروى عنها، ولا مانع من أن يدس على اجتماعاتها ما لم يجر فيها، وينقل عن أشخاصهم ما لم يقولوه، ويتسامع الجمهور أموراً ما حدثت في تلك الاجتماعات، ولا قالها حاضروها، فإذا جرى الشك والريب فيما دون من كتب المسيحية التي فقدت سندها بسبب هذا الاضطهاد، والتي كتبت في ظلمة السرية، يكون قد وقع حيث وجدت دواعيه، وقامت شواهده.
[الفلسفة الرومانية والمسيحية:]
٢١- ولقد كان من المسيحيين من يفرون بدينهم، ومنهم من يظهر الوثنية ويبطن المسيحية، ومنهم من دخل النصرانية وفي رأسه تعاليم الوثنية لم تخلع منه ولم تزايله، وأن زايلها بعقله المدرك فعقله الباطن ما زال مستقراً لها ومكمناً تكمن فيه، وهؤلاء لا شك أثر تفكيرهم في المسيحية التي لم يكن لها قوة تحميها ولا شكيمة تعقل النفوس إلى حظيرتها.
وإن التاريخ يروى لنا إنه في القرن الثاني، والثالث، والرابع الميلادي قد دخل الرومان والمصريون أفواجاً أفواجاً في المسيحية. فمن حق العلم أن نحكي ما مان يسيطر على هذه الأمم من أفكار، وما كان يسود تفكيرها من منازع عقلية ودينية، ولا نعتمد في ذلك إلا على ما أثبته تاريخ العلم والفلسفة، وما أجمع عليه المؤرخون.
يحكى التاريخ أن مدينة الرومان لم تكن متناسقة تناسقاً اجتماعياً، فلم يكن توزيع الثروة فيها توزيعاً يتحقق معه العدل الاجتماعي، فبينما