وهكذا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فلفظه معجزة تحدى به الأنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدمون لا في الحال، ولا في الاستقبال، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا، وما ذلك إلا لأنه كلام الخالق - عز وجل -، والله لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
[ما نراه حكمة صحيحة:]
١٢- من هذا الكلام يستفاد أن معجزة المسيح كانت من نوع إبراء المرضى الذين يتعذر شفاؤهم وإحياء الموتى، لأن القوم كانوا على علم بالطب الطبيعي وكانوا فلاسفة في ذلك، فجاءت المعجزة من جنس ما يعرفون، ليكون عجزهم حجة عليهم، وعلى غيرهم ممن هم دونهم في الطب، ولكن رينان الفيلسوف المؤرخ الفرنسي يقرر أن اليهود ما كانوا على علم بالطب الطبيعي فيقول: "كانت صناعة الطب في المشرق في ذلك الزمان كما هي اليوم، فإن اليهود في فلسطين كانوا يجهلون هذه الصناعة التي وضعها اليونان منذ خمسة قرون قبل ذلك التاريخ، وكان قد ظهر قبل ذلك بأربعة قرون ونصف كتاب لأبقراط أبي الطب موضوعه العلة المقدسة يعني الهستريا، وفيه وصف هذه العلة، وذكر دوائها، إلا أن اليهود في فلسطين كانا يجهلون صدور هذا الكتاب، وكان في اليهودية في ذلك الزمان كثيرون من المجانين، وربما كان ذلك ناشئاً من شدة الحماسة الدينية.
فاليهود الذين بعث المسيح بين ظهرانيهم لم يكونوا على علم إذن بالطب، أو الطب الطبيعي على رأي ذلك الفيلسوف المؤرخ.
وفي الحق أن الذي نراه تعليلاً مستقيماً لكون معجزات السيد المسيح عليه السلام جاءت على ذلك النحو هو مناسبة ذلك النوع لأهل زمانه، لا لأنهم أطباء، فناسبهم لن يكون المعجزة مما يتصل بالشفاء والأدواء، بل لأن أهل زمانه كان قد سادهم إنكار الروح في أقوال بعضهم، وأفعال جميعهم، فجاء عليه السلام بمعجزة هي في ذاتها أمر خارق للعادة،