ويروي ابن كثير: "عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلاً، حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم انطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، فأكثر اليهود فيه، وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك بقوله تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} ، ولم يذكر في الآثار الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام حال عيسى عليه السلام في مرباه ونشأته، وكيف كان منه مما يكون إرهاصاً بنبوته، فليس لنا إلا أن نقول إنه قد تربى بما كان يتربى به أمثاله الذين ينشئون على التقى والمعرفة في بني إسرائيل، ويغلب على الظن أن يدون في ظهر منه وهو غلام، ما يدل على روحانيته، وما يدعو إليه بعد ذلك من حياة روحية، وسط قوم سيطرت عليهم المادة، وغلبت عليهم نزعاتهم، والاتجاه إليها.
[الحكمة في كون المسيح ولد من غير أب:]
٩- لبد من أن نشير هنا أن ننتقل إلى بعثته عليه السلام إلى السبب الذي من أجله ولد عيسى عليه السلام من غير أب. فإنه لابد أن يكون ذلك لحكمه يعلمها الله جلت قدرته، وقد أشار إليها سبحانه في قوله تعالت كلماته:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} .
وإنا نتلمس تلك الآية الدالة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، فنجد أنه يبدو أمام أنظارنا أمران جليان: أحدهما. أن ولادة عيسى عليه السلام من غير أب تعلن قدرة الله سبحانه وتعالى، وإنه الفاعل المختار المريد، وإنه سبحانه لا يتقيد في تكوينه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها في نظامه الذي أبدعه الله والذي خلقه، فالأسباب الجارية لا تقيد إرادة الله، لأنه خالقها، وهو مبدعها ومريدها، فإن الأشياء لم تصدر عن الله جلت قدرته، كما يصدر الشيء عن علته، والمسبب عن سببه، من غير أن يكون للعلة إرادة في معلولها، بل كانت بفعله سبحانه وبإرادته التي لا يقيدها شيء مهما يكن شأنه، وخلق عيسى من غير أب هو بلا ريب إعلان لهذه الإرادة الأزلية، بين قوم غلبت عليهم الأسباب المادية، وفي عصر ساده نوع من الفلسفة، أساسها أن خلق الكون كان مصدره الأول، كالعلة عن معلولها، فكان عيسى آية