ترى ترفا ورخاء لمن أفاءت عليهم الدولة بالغئ والغنائم والأسلاب من الفتوح الرومانية، ترى ألوف الألوف من الناس قد حرموا مل يتبلغون به في حياتهم، فاستولى عليهم الإحساس بالظلم، والسخط على الحياة، والتململ بها، والناس لا يشقون لآلامهم وحرمانهم بمقدار ما يشقون لسعادة غيرهم التي امتنعت عليهم، وكذلك كانت آلام سواد الرومان، ولولا الإيمان بحياة مستقبلية، يستمتعون فيها بما حرموا منه في هذه الحياة، لضاقت الصدور بما يجلجل في القلوب، ولانفجرت في ثورة اجتماعية، لكن توجت هذه النفوس إلى الإيمان بعالم علوي، وأعترف الإنسان بعجزه التام عن معرفة نفسه وإسعادها، إذا اعتمد على تفكيره فقط، لذلك رجعوا إلى الدين.
وفي هذا الوقت أراد الفلاسفة أن يحلوا فلسفتهم محل الأديان، إذ أخذت التماثيل والأوثان تفقد قوة تأثيرها، ولم يعد لها سلطان في تصريف سلوك الإنسان، وفقدت معابدها ما كان لها من روعة وقوة، فاعتور النفس الرومانية حينئذ عاملان، كلاهما فيه قوة وبأس، فشعورهم بالبأساء والآلام يجعلهم في حاجة إلى عزاء من الدين، وسلوى باليوم الآخر، وملاذ إلى حياة روحية، والفلسفة - بما لها من سلطان العقل - لما وجدت الأوثان تسقط قيمتها أرادت أن تحل محلها، حينئذ التحمت الفلسفة بالشعور الديني، أو التقت الفلسفة والدين، ولم يكن التقاؤهما عداوة وخصاماً، بل كان محبة وسلاماً، فكانت تلك الحال داعية اتصال بينهما، لا داعية افتراق.
قال غندليند في ذلك:"أن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذيب الآراء الدينية، وترتيبها ولتقدم الشعور الديني اللجوج فكرة في العالم تقنعه. فأوجدت نظماً دينية من قبيل ما وراء المادة تتفق مع الأديان المتضادة اتفاقاً يختلف قلة وكثرة".
هذه كلمة ذلك الفيلسوف نقلها عنه صاحب كتاب المبادئ الفلسفية، فما هذه الأديان المتضادة التي ألفت بينها الفلسفة، وجعلت من نغماتها المختلفة نغمة واحدة مؤتلفة؟