الذين أعلنوا أُلوهية المسيح، ومعهم في ذلك الكثرة العظمى من المسيحيين، كما يدل على ذلك ما سننقله من تاريخ ابن البطريق، فلقد حاولوا أن يجذبوا قسطنطين ابن قسطنطين إلى رأيهم بعد أن مات أبوه، فاجتمعوا به. وحسنوا رأي الموحدين له، وبينوا له إنه صميم المسيحية، وأن الأساقفة الذين ناقضوه خالفوا وجه الحق، ولم يكونوا آخذين بتعاليم السيد المسيح التي بشر بها بين الأنام، ولكنه لم يعمل على نصرتهم، ولم يعاونهم في دعايتهم، مع أن أكثر المسيحيين في ذلك العصر كانوا موحدين.
يقول ابن البطريق:"في ذلك العصر غلبت مقالة أريوس على القسطنطينية، وأنطاكية وبابل، والإسكندرية". وأسيوط قد علمت أن كنيستها كانت موحدة.
ويقول في بيان الإسكندرية ومصر بعد الإجمال السابق "فأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريوسيين، فغلبوا على كنائس مصر والإسكندرية وأخذوها، ووثبوا على اثناسيوس بطريرك الإسكندرية ليقتلوه، فهرب منهم واختفى".
وقد كان على كثير من الكنائس رؤساء موحدون يستمسكون بالتوحيد ويحثون على الاستمساك به، وكلما ولي أسقف غير موحد ثاروا به، وهموا بقتله، وهذا ابن البطريق يقص علينا أن بطريق بيت المقدس لم يكن موحداً فيثور عليه الموحدين، ويهمون بقتله فيهرب منهم، فيقول في ذلك "وثب أهل بيت المقدس، من كان منهم أريوسيا على كورلس أسقف بيت المقدس ليقتلوه، فهرب منهم، فصيروا أراقليوس أسقفاً على بين المقدس، وكان أريوسيا".
وهكذا نجد مغالبة قوية بين التوحيد وألوهية المسيح، الأولى تغالب بالكثرة وقوة الإيمان، وسعة الحيلة، والثانية بقوة السلطان، وبقايا الوثنية والذين كانوا متأثرين بها، ووجدوا مواءمة بينهما وبين ما يألفون، فابتغوها لقربها مما ألفوا وغرفوا. وأمكنته التقاليد من نفوسهم. ولكن قوة السلطان طمست نور المذهب الأول. إذ أنها احتاطت فجملت كل الأساقفة ممن لم يكونوا موحدين. واحتاطت أشد الاحتياط في ذلك، وأخذ أولئك يسيطرون على قلوب العامة بالرؤى والأحلام والهامات يزعمونها، حتى اختفى المذهب الحق في لجة التاريخ، ولم يبد على السطح ألا أُلوهية المسيح.