للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وسدانته، والقيام بشئونه، واستمرت مصممة على الوفاء بنذرها، فلما وضعت، وكان نذرها على فرض الذكورة، كما يبدو من أشارات النصوص القرآنية، جددت العزم على الوفاء بالنذر، وقد وجدت مل تسوغه النفس للتحلل من النذر، فكان ذلك الإصرار عبادة أخرى، إذ وجدت في النفس داعيات التردد، والرجوع والتحلل من الوفاء فكان كفها هذه الداعيات والقضاء عليها عبادة أخرى، ثم انصرفت الفتاة الناشئة منذ طراوة الصبا إلى النسك والعبادة، وقام على تنشئتها وهدايتها وتعليمها نبي من أنبياء الله الصديقين الصالحين، فكلفها زكريا، ووجهها إلى العبادة الصحيحة، وتنزيه القلب من كل أدران الشر والإثم، وكان الله سبحانه وتعالى يدر عليها أخلاق الرزق من حيث لا تقدر ور تحتسب، ومن غير جهد ولا عنت، حتى أثار ذلك عجب نبي الله كافلها فكان {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

٦- ولقد كانت تلك التنشئة الطاهرة التي تكونت في ظلها بريئة من دنس الرذيلة - لا يجد الشيطان سبيلاً أو منفذاً ينفذ إلى النفس منها - تمهيداً لأمر جليل قد اصطفاها الله تعالى له دون العالمين، ولذا خاطبتها الملائكة وهي الأرواح الطاهرة باجتباء الله لها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} . ولقد كان ذلك الاصطفاء هو اختيار الله لها لأن تكون أما لمن لم يولد من غير نطفة آدمية. وكان ذلك لكي تكون آية مشهورة، تحمل فيها حف بها من أحوال التراهن التي تقطع ريب المرتاب، وألسنة كل أفاك، وتغير السبيل أمام المؤمنين إذ أن ولادته من غير أب من أم كانت حياتها للنسك والعبادة. والعكوف على التقوى. وتحت ظل نبي من أنبياء الله تعالى لم تزن بريبة قط - يجعل المؤمن يؤمن بآية الله الكبرى في هذا الكون، ولا يجعل شيئاً يقف أمام مريد الهداية من تطنن بالأم أو ريبة فيها، فحياتها كلها من قبل ومن بعد تنفي هذه الريبة، وتبعدها عن موطن الشبهة.

<<  <   >  >>