للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَتَّى انْتَشَيْتُ وَلِي رُوحَانِ فِي بَدَنٍ ... وَالزِقُّ مُطَّرَحٌ جِسْمٌ بِلاَ رُوحٍ (١)

ويذكر لنا عن ثمامة بن أشرس الذي قاد حركة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، أنه رأى الناس يوم الجمعة يتعادون إلى المسجد الجامع لخوفهم فوت الصلاة، فقال لرفيق له: «انْظُرْ إِلَى هَؤُلاَءِ الحَمِيرِ وَالبَقَرِ ... » ثم قال: «مَاذَا صَنَعَ ذَاكَ العَرَبِيُّ بِالنَّاسِ؟» (٢) يَعْنِي رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ويظهر أن ما ذكره ابن قتيبة والبغدادي عن رؤساء الاعتزال - وإن كان كلام خصم في خصومه - صحيح بالجملة من حيث اتصاف أولئك الرؤساء بِقِلَّةِ التَدَيُّنِ وعدم التورع عن ارتكاب بعض المُحَرَّمَاتِ، فقد روى الجاحظ وهو من أئمة الاعتزال - في " كتاب المضاحك ": إِنَّ المَأْمُونَ رَكِبَ يَوْمًا فَرَأَىَ ثُمَامَةَ سَكْرَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الطِّينِ فَقَالَ لَهُ: «ثُمَامَةُ؟» قَالَ: «أَيْ واللهِ». قَالَ: «أَلاَ تَسْتَحْيِ؟» قَالَ: «لاَ وَاللهِ». قَالَ: «عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ. قَالَ: «تَتْرَى ثُمَّ تَتْرَى». وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ غُلاَمَ ثُمَامَةَ قَالَ لِثُمَامَةَ يَوْمًا: «قُمْ صَلِّ». فَتَغَافَلَ ثُمَامَةُ، فَقَالَ لَهُ غُلاَمُهُ: «قَدْ ضَاقَ الوَقْتُ، فَقُمْ وَصَلِّ وَاسْتَرِحْ»، فَقَالَ: «أَنَا مُسْتَرِيحٌ إِنَّ تَرَكْتَنِي» (٣).

وَأَيًّا مَا كان فقد تطور الجفاء بين الفريقين إلى أن وقعت فتنة خلق القرآن التي حمل المأمون لواءها سَنَةَ ٢١٨ وجعل الدولة رسمياً تجبر الناس على ما لا يعتقدون وكان لِلْمُحَدِّثِينَ موقف مُشَرِّفٌ في الدفاع عن الحق، إذ صمدوا للإغراء والتهديد والوعيد، بل وللسجن والقتل، وما لقيه إمام السُنَّةِ أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللهُ - في ذلك من سجن وضرب مدى ثلاثة عشر يَوْماًً أبلغ دليل على ما نال علماء السُنَّةِ من اضطهاد وأذى، حتى وَلِيَ المتوكل الخلافة سَنَةَ ٢٣٢ فأعلن ميله إلى أهل السُنَّةِ، وأزال عن الناس تلك المحنة، ورفع من أقدار المُحَدِّثِينَ، وتضاءل المعتزلة بعد ذلك حتى لم تقم لهم من بعدها قائمة، وقد أدى - مع الأسف - هذا الصراع إلى نتيجتين خطيرتين فيما يتعلق بِِالسُنَّةِ:


(١) " تأويل مختلف الحديث ": ص ٢١.
(٢) المصدر السابق: ص ٦٠.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[قارن بما ورد في صفحة ٦ من كتاب " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "].
(٣) " الفرق بين الفرق ": ص ١٠٤.