نَعَمْ إن العلماء - رَحِمَهُمْ اللهُ - لم يستعملوا تلك المقاييس إِلاَّ في النطاق الذي لا بد منه، فلم يَرُدُّوا حَدِيثًا إلا بعد تعذر التأويل، بحيث يتحقق فيه على وجه التأكيد فَقْدَ شَرْطٍ من شروط الصحة، ووجود علامة من علامات الوضع. وقد جعلوا عمدتهم الأولى نقد السند، وبه أزاحوا من طريق السُنَّةِ، آلافاً بل عشرات الألوف من الأحاديث المكذوبة، ثم نقدوا المتن في الحدود التي ذكرناها على نطاق ضيق، إذ كانوا متثبتين لا يلقون الكلام على عواهنه، ولا يجازفون في دين الله بالهوى والعاطفة، وبذلك سلموا مِمَّا وقع فيه المؤلف من أخطاء شنيعة حين أراد أن يستعمل تلك المقاييس بدون تثبت وحيطة، وحسن توجيه، فحكم بوضع أحاديث صحيحة لا غبار عليها كما سترى.
وعذر العلماء - رَحِمَهُمْ اللهُ - واضح فيما فعلوه، ذلك أنهم إنما يبحثون في أحاديث تنسب إلى النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وللنبي ظروف خاصة به، تجعل مقياس النقد في حديثه أدق وأصعب من مقياس النقد في أحاديث الناس، لأنه رسول يتلقى الوحي من الله، أوتي جوامع الكلم، وأعطي سلطة التشريع، وأحاط من أسرار الغيب بما لم يحط به إنسان عادي، فلا مانع يمنع عقلاً من أن يقول حَدِيثًا يعلو عن أفهام الناس في عصره، فيكون أشبه بالتعريف الفلسفي لعصور تبلغ فيه الفلسفة مداها، ولا مانع عقلاً من أن يضع للناس أحكام المعاملات بألفاظ موجزة هي أشبه ما تكون بألفاظ القوانين، فإذا قال لنا:«الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقََا» وإذا قال: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا» وإذا قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ». كان ذلك في حدود السلطة التي أعطيت له في جو البلاغة التي عرف بها فلا يصح أن يستبعد منه مثل تلك الأقوال القانونية بِحُجَّةِ أنها أشبه ما تكون بمتون الفقه، إذ ماذا كان ينبغي أن يقول لو لم يستعمل هذه الألفاظ العربية الفصيحة لمدلولاتها الصريحة، وإذا جاء الفقهاء بعد ذلك فأخذوها بألفاظها ووضعوها في متونهم، أيقال: إن هذه الأحاديث أشبه ما تكون بمتون الفقه، ومثل ذلك ما أخبر به من خواص بعض النباتات أوالثمار، فقد يكون ذلك من إعجاز النبوة لتعطي الناس في كل عصر دليلاً على صدقها، فإذا لم يكتشف