الناس في عصرٍ سِرَّ ما أخبر به الرسول، لا يكون ذلك دليلاً على كذب الحديث ووضعه، ومن هنا ضَيَّقَ علماؤنا دائرة نقد المتن بمقدار ما وَسَّعُوا في دائرة نقد السند، لأن الذين ينقد حالهم في السند رجال يَجْرِي عليهم من القوانين ما يَجْرِي على الناس جميعاً، أما المتن فإنه كلام ينسب إلى من هو فوق البشرية في علومه ومعارفه واستعداده.
فقد يخرج كلامه مخرج المجاز لا الحقيقة - كما فعل القرآن كثيراً - فَيَتَوَهَّمُ من ينظر فيه لأول مَرَّةٍ أَنَّهُ غير صحيح، بينما المراد منه غير حقيقته اللغوية التي تتبادر إلى الذهن.
وقد يخرج كلامه مخرج الإخبار عن المغيبات الي تقع في مسقبل الزمان، ولم يكن - وقت النقد - قد حان زمان تحققها، فلا يصح التسرع في الإنكار. وقد يخرج كلامه مخرج الإخبار عن حقائق علمية لم تكتشف في عصر الرسالة ولا في عصور الناقدين، وإنما تكتشف فيما بعد كحديث «وُلُوغِ الكَلْبِ فِي الإِنَاءِ»، فقد أثبت العلم الحديث صحة ما جاء فيه، في حين عَدَّهَا علماؤنا من قبل، من الأمور التَّعَبُّدِيَّةِ التي يحيط الناس بمعناها وحكمتها، وَتَسَرَّعَ بعض الباحثين حَدِيثًا فأنكر حُجَّةَ هدْا الحديث، كُلُّ هذا يجعل علماءنا - رَحِمَهُمْ اللهُ - على حق في تَثَبُّتِهِمْ وَتَأَنِّيهِمْ في رَدِّ الأحاديث إذا بدت عليها بادرة شبهة، أو تردد العقل في فهمها، ولم يجزم باستحالتها بعد تأكدهم من صحة السند، وسلامة رجاله من أن يكون فيهم كذاب أو ضعيف أو مُتَّهَمٍ. أما المُسْتَشْرِقُونَ فلم يقفوا من رسول الله هذا الموقف بل نقدوا أحاديثه على وفق ما يعرفون من أصول النقد العام لأخبار الناس العاديين، ذلك لأنهم ينظرون إلى الرسول كرجل عادي لم يتصل بوحي، ولم يطلعه الله على مغيبات، ولم يُمَيِّزْهُ عن بني الإنسان بأنواع من المعارف والكرامات، فإذا روي عَنْهُ حديث يُنْبِىءُ عن معجزة علمية لم تكن معروفة في عصره، قالوا: إن هذا موضوع لأنه لا يتفق مع علوم الناس ومعارفهم في عصره، وإذا رُوِيَ لهم حديث عليه صبغة القانون قالوا: إن هذا موضوع لأنه يمثل الفقه بعد نضوجه، ولا يمثله في سذاجته