إذا بدأت حركات الوعي السياسي وبدأ استقلالنا السياسي عن سيطرة الغَرْبِيِّينَ، ابتدأ عندنا الشعور بوجوب الاستقلال الفكري، الشعور بشخصيتنا وقيمة حضارتنا وتراثنا، الشعور بالخجل لموقفنا السابق من اتكالنا على المُسْتَشْرِقِينَ في معرفة ما عندنا من تراث وعقيدة وتشريع، وانتشر هذا الوعي في أوساطنا المثقفة من دينية وغيرها، فبدأنا نكتشف الحقيقة، حقيقة هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ في أبحاثهم وأهدافهم الدينية والاستعمارية من ورائها. وما زلنا نسير في هذا الاتجاه الذي لم يستكمل قوته واستقلاله الذاتي بعد، لأنها سُنَّةُ اللهِ في الأشياء. ولكنا واصلون إلى هذه المرحلة بإذن الله، حتى يأتي يوم يستغرب فيه أبناؤنا وأحفادنا كيف كنا بسطاء مخدوعين بهؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ إلى هذا الحد.
سيأتي يوم ننقلب فيه نحن إلى دراسة تُرَاثِ الغَرْبِيِّينَ وَنَقْدِ ما عندهم من دين وعلوم وحضارة، وسيأتي اليوم الذي يستعمل فيه أبناؤنا وأحفادنا مقاييس النقد التي وضعها هؤلاء الغَرْبِيُّونَ، في نقد ما عند هؤلاء الغَرْبِيِّينَ أنفسهم من عقيدة وعلوم، فإذا هي أشد تهافتاً. وأكثر ضعفاً مِمَّا يلصقونه اليوم بعقيدتنا وعلومنا.
تُرَى لو استعمل المُسْلِمُونَ معايير النقد العلمي التي استعملها المُسْتَشْرِقُونَ في نقد القرآن وَالسُنَّةُ، في نقد كتبهم المقدسة وعلومهم الموروثة، ماذا كان يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من «ثبوت»؟
تُرَى لو استعمل المُسْلِمُونَ في المستقبل معايير النقد العلمي التي يزعم المُسْتَشْرِقُونَ أنهم يأخذون بها عند نقد تاريخنا وأئمتنا، في نقد تاريخ الحضارة الأوروبية ومقدساتها وفاتحيها ورؤسائها وعلمائها، أَلاَ يخرجون بنتيجة من الشك وسوء الظن أكبر بكثير مِمَّا يخرج به المُسْتَشْرِقُونَ بالنسبة إلى حضارتنا وعظمائنا؟ ألاَ تبدو هذه الحضارة مُهَلْهَلَةً رَثَّةَ الثِّيَابِ؟ وألاَ يبدو رجال هذه الحضارة من علماء وسياسيين وأدباء بصورة باهتة اللون لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير؟
كثيرا ما أتمنى أن يتفرغ منا رجال للكتابة عن هذه الحضارة وتاريخ علمائها بنفس الأسلوب الذي يكتب به المُسْتَشْرِقُونَ من تتبع الأخبار الساقطة، وفهم