فليفهم منه من شاء ما شاء، بشرط أن يَتَحَلَّى بصفة العلماء، وهي الإنصاف والإخلاص للحق، والبعد عن العصبية والهوى.
وأرى أخيراً أن أختم هذه الكلمة عن المستشرق بكلمة للعلاَّمة غوستاف لوبون، يحلل فيها سِرَّ تحامل العلماء الغَرْبِيِّينَ على تراثنا، وإنكارهم لفضل حضارتنا.
قال العلامة «غوستاف لوبون» في كتابه " حضارة العرب " بعد أن أقام الأدلة على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في الغرب، وأثرها في نشوء الحضارة الغربية الحديثة:
«وَقَدْ يَسْأَلُ القَارِئُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: لِمَاذَا يُنْكِرُ تَأْثِيرَ العَرَبِ عُلَمَاءُ الوَقْتِ الحَاضِرِ الذِينَ يَضَعُونَ مَبْدَأَ حُرِيَّة الفِكْرِ فَوْقَ كُلِّ اعْتِبَارٍ دِينِيٍّ كَمَا يَلُوحُ؟
لاَ أَرَىَ غَيْرَ جَوَابٍ وَاحِدٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الذِي أَسْأَلُ نَفْسِي بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ اسْتِقْلاَلَنَا الفِكْرِيَّ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ الظَّوَاهِرِ بِالحَقِيقَةِ، وَإِنَّنَا لَسْنَا أَحْرَارَ الفِكْرِ فِي بَعْضِ المَوْضُوعَاتِ كَمَا نُرِيدُ.
فَالَمَرْءُ عِنْدَنَا ذُو شَخْصِيَّتَيْنِ: (الشَّخْصِيَّةُ العَصْرِيَّةِ) التِي كَوَّنَتْهَا الدِّرَاسَاتُ الخَاصَّةُ وَالبِيئَةُ الخُلُقِيَُّةُ والثَّقَافِيَّةُ، وَ (الشَّخْصِيَّةُ القَدِيْمَةُ) غَيْرَ الشَّاعِرَةِ التِي جَمَدَتْ وَتَحَجَّرَتْ بِفِعْلِ الأَجْدَادِ فَكَانَتْ خُلاَصَةً لِمَاضٍ طَوِيلٍ.
فَالشَّخْصِيَّةُ غَيْرِ الشَّاعِرَةِ وَحْدَهَا، وَوَحْدَهَا فَقَطْ، هِيَ التِي تَتَكَلَّمُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ وَتُمْسِكُ فِيهِمْ المُعْتَقَدَاتُ نَفْسَهَا مُسَمَّاةً بِأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَتُمْلِي عَلَيْهِمْ آرَاءَهُمْ، فَيَلُوحُ مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الآرَاءِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَيُحْتَرَمَ.
فَالحَقُّ أَنَّ أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَلُّوا أَشَدَّ مَنْ عَرَفَتْهُ أُورُوبَا مِنَ الأَعْدَاءِ إِرْهَابًا، عِدَّةَ قُرُونٍ، فَهُمْ عِنْدَمَا كَانُوا لاَ يُرْعِدُونَنَا بِأَسْلِحَتِهِمْ كَمَا فِي زَمَنِ شَارْلْ مَارْتَلْ وَالحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، أَوْ يُهَدِّدُونَ بَعْدَ فَتْحِ القُسْطَنْطِينِيَّةِ، كَانُوا يُذِلُّونَنَا بِأَفْضَلِيَّةِ حَضَارَتِهِمْ السَّاحِقَةِ، فَلَمْ نَتَحَرَّرْ مِنْ نُفُوذِهِمْ إِلاَّ بِالأَمْسِ.
لَقَدْ تَرَاكَمَتْ أَوْهَامُنَا المَوْرُوثَةُ ضِدَّ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ مِزَاجِنَا، فَأَضْحَتْ طَبِيعَةً مُتَأَصِّلَةً فِينَا تَأَصُّلَ حِقْدِ اليَهُودِ عَلَى النَّصَارَى، الخَفِيُّ أَحْيَانًا، وَالعَمِيقُ دَوْمًا.
فَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى أَوْهَامِنَا المَوْرُوثَةَ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، وَهَمَّنَا المَوْرُوثَ الذِي زَادَ مَعَ القُرُونِ بِفِعْلِ ثَقَافَتِنَا المَدْرَسِيَّةِ البَغِيضَةِ القَائِلَةِ: " إِنَّ اليُونَانَ وَاللاَتِينَ وَحْدَهُمْ مَنْبَعُ العُلُومِ وَالآدَابِ فِي الزَّمَنِ المَاضِي "، أَدْرَكْنَا - بِسُهُولَةٍ - سِرَّ جُحُودِنَا العَامِّ لِتَأْثِيرِ العَرَبِ العَظِيمِ فِي تَارِيْخِ حَضَارَةِ أُورُوبَا.