فِي قضيب البان بمدرسة الْموصل، فَدخل عَلَيْهِم قضيب البان فَبُهِتُوا وَقَالَ: يَا ابْن يُونُس أَنْت تعلم كل مَا يُعلمهُ الله تَعَالَى؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنِّي أَنا من الْعلم الَّذِي لَا تعلمه أَنْت، فَلم يدر ابْن يُونُس مَا يَقُول، فَتَبِعَهُ المارديني فَأخذ من الْأَزِقَّة سبع كسر فَأتى بَاب عَجُوز فَقَالَت: يَا قضيب البان أَبْطَأت علينا فناولها الْكسر وَانْصَرف وأتى بَاب الْموصل وَهُوَ مغلق فانفتح لَهُ فَخرج والمارديني خَلفه وَمَشى يَسِيرا وَإِذا نهر يجْرِي عِنْده شَجَرَة فَخلع ثِيَابه واغتسل فِيهِ وَلَيْسَ ثيابًا معلقَة على الشَّجَرَة وَصلى إِلَى الْفجْر، وَغلب على المارديني النّوم إِلَى أَن أيقظه حر الشَّمْس وَهُوَ بصحراء مقفرة خَالِيَة، فتحير فَمر بِهِ ركب فَأَتَاهُم وسألهم وَقَالَ أَنا من الْموصل وَخرجت مِنْهَا اللَّيْلَة وَقت الْعشَاء فأنكروا أمره وَقَالُوا: مَا نَدْرِي أَيْن يكون الْموصل؟ فاستخبره شيخ مِنْهُم مَا قصَّته، فَأخْبرهُ فَقَالَ لَا يقدر على ردك إِلَى الْموصل إِلَّا الَّذِي جَاءَ بك إِلَى هُنَا، يَا أخي أَنْت بِبِلَاد الْمغرب وَبَيْنك وَبَين الْموصل سِتَّة أشهر، وَسَارُوا فجَاء قضيب البان لَيْلًا وَفعل كفعلة الأول وَعند الْفجْر نزع تِلْكَ الثِّيَاب وَلبس ثِيَابه.
قَالَ المارديني: وَسَار وتبعته ثمَّ لم نَلْبَث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى جِئْنَا الْموصل، فَالْتَفت إِلَيّ وعرك أُذُنِي وَقَالَ: لَا تعد إِلَى مثلهَا، وَإِيَّاك وإفشاء الْأَسْرَار، وعزم قَاضِي الْموصل أَن يَقُول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاج قضيب البان من الْموصل فِي سره، قَالَ: فَرَأَيْت قضيب البان مُقبلا على هَيئته الْمَعْرُوفَة فَمشى خطْوَة وَإِذا هُوَ عَليّ هَيْئَة كردِي ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة بدوي، ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة فَقِيه بِصُورَة غير الصُّور الْمُتَقَدّمَة، وَقَالَ لي: يَا قَاضِي هَذِه أَربع صور رأيتهن فَمن هُوَ قضيب البان مِنْهُنَّ حَتَّى تَقول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاجه فَلم أتمالك أَن اكببت على يَدَيْهِ أقبلهما وَأَسْتَغْفِر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي عَاشر شَوَّال استنجد غَازِي بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل بِصَاحِب حصن كيفا وَصَاحب ماردين واقتتلوا مَعَ صَلَاح الدّين فكسرهم وَوصل غَازِي الْموصل مرغوباً وَقصد بعض القلاع فثبته وزيره وَأخذ صَلَاح الدّين أثقالهم وَحصر بزاعة ثمَّ تسلمها وَفتح منبج عنْوَة وَأسر صَاحبهَا نيال بن حسان، وَكَانَ شَدِيد البغض لصلاح الدّين وَأخذ موجوده ثمَّ أطلقهُ فأقطعه غَازِي الرقة.
ثمَّ نَازل صَلَاح الدّين عزازاً وتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة فَوَثَبَ إسماعيلي عَلَيْهِ فجرحه فِي رَأسه، فَقبض صَلَاح الدّين يَدي الْإِسْمَاعِيلِيّ وبقى يضْرب بالسكين فَلَا يُؤثر حَتَّى قتل الْإِسْمَاعِيلِيّ.
ووثب ثَان وثالث فقتلا فذعر وَعرض جنده وَأبْعد من أنكرهُ مِنْهُم، ثمَّ نَازل حلب منتصف ذِي الْحجَّة وحصرها وَبهَا الصَّالح بن نور الدّين وَانْقَضَت هَذِه السّنة وَهُوَ محاصرها، فسألوا صَلَاح الدّين فِي الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وأخرجوا إِلَيْهِ بِنْتا صَغِيرَة لنُور الدّين فأكرمها وَأَعْطَاهَا كثيرا، وعلموها أَن تطلب قلعة عزاز فسلمها إِلَيْهِم ورحل عَن حلب فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute