من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال وَجرى بَينه وَبينهمْ حملات حربية ووقعات شامية ومصرية، كَانَ مُعظما لحرمات الله دَائِم الابتهال كثير الِاسْتِعَانَة قوي التَّوَكُّل ثَابت الجأش، لَهُ أوراد وأذكار يديمها، وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه بشجاعته تضرب الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال وَلَقَد أَقَامَهُ الله فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَاجْتمعَ بِالْملكِ مرَّتَيْنِ وبخطلو شاه وبولان، وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول.
قَالَ القَاضِي المنشى شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فضل الله فِي تَرْجَمته: جلس الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود غازان حَيْثُ تجم الْأسد فِي آجامها وَتسقط الْقُلُوب دواخل أجسامها وتجد النَّار فتوراً فِي ضرمها وَالسُّيُوف فرقا فِي قرمها خوفًا من ذَلِك السَّبع المغتال والنمرود الْمُحْتَال وَالْأَجَل الَّذِي لَا يدْفع بحيلة محتال فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدره وواجهه وَدَرَأَ فِي نَحره وَطلب مِنْهُ الدُّعَاء فَرفع يَدَيْهِ ودعا دُعَاء منصف أَكْثَره عَلَيْهِ وغازان يُؤمن على دُعَائِهِ، وَكتب ابْن الزملكاني على بعض تصانيف ابْن تَيْمِية هَذِه الأبيات
(مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر)
(هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الْعَصْر)
(هُوَ آيَة فِي الْخلق ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر)
وَلما سَافر ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة سنة سَبْعمِائة وحض على الْجِهَاد رتب لَهُ مُرَتّب فِي كل يَوْم وَهُوَ دِينَار وتحفه وجاءته بقجة قماش فَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد: لما أجتمعت بِابْن تَيْمِية رَأَيْت رجلا كل الْعُلُوم بَين عَيْنَيْهِ يَأْخُذ مَا يُرِيد ويدع مَا يُرِيد وَحضر عِنْده شيخ النُّحَاة أَبُو حَيَّان وَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله.
وَقَالَ فِيهِ على البديهة أبياتاً مِنْهَا:
(قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر)
(فأظهر الْحق إِذْ آثاره درست ... وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر)
(كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها ... أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر)
وَلما جَاءَ السُّلْطَان إِلَى شقحب والخليفة لأقاهما إِلَى قرن الْحرَّة وَجعل يثبتهما فَلَمَّا رأى السُّلْطَان كَثْرَة التتر قَالَ: يَا خَالِد بن الْوَلِيد، قَالَ: قل يَا مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين، وَقَالَ للسُّلْطَان: اثْبتْ فَأَنت مَنْصُور فَقَالَ لَهُ بعض الْأُمَرَاء: قل إِن شَاءَ الله فَقَالَ: إِن شَاءَ الله تَحْقِيقا لَا تَعْلِيقا، فَكَانَ كَمَا قَالَ، انْتهى مُلَخصا.
وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن وَالْمقَام لحلفت إِنِّي مَا