للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العصور التالية. ولا يضير فن الشعر في شيء أن نشكك في أصالة مصادره، بعكس ما قد يحدث إذا قلنا نفس الشيء عن مذهب ديني. لأن الشاعر لا يركز اهتمامه في الحقيقة التي يعلنها، بقدر ما يركزه في جمال القالب الذي يقدمها فيه، بغض النظر عن المصدر الذي يبحث فيه عن خاماته سواء في حكمة القدماء أو المعاصرين، في وقائع تجاربه، أو في الرأي العام، في أي شعور أو خيال، مهما كانت درجة هبوطه. ولقد أثبت نقد شعر أمية بصفة خاصة، أنه يرجع إلى عدة مصادر مختلفة - وهذا ما لاحظه هوارت - فعندما يتكلم الشاعر عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة، وعندما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن، وعندما يقص التاريخ الديني يلجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية، وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية (أو أساطير الآلهة اليونانية) حيث يتمثل الشخص أحيانا في صورة إنسان، وأحيانا في صورة حيوان أو نبات.

وتبقي أمامنا مرحلة أخيرة في مجال هذا التنقيب عن المصادر الطبيعية الخارجية للقرآن، ألا وهي: الأفكار الشعبية.

إننا لا ننوي أن ننفي عن محمد صلى الله عليه وسلم - وهو في شبابه - أي نوع من العلم المنقول إليه بطريق السمع عن الأديان السابقة. فليس من المقبول عقلا الادعاء بأنه كان يعيش في عزلة تامة تجعله أجهل من شعبه في هذه النقطة. ويبدو لنا هذا الشعب من خلال القرآن الكريم وقد توفرت عنده بعض المعلومات عن الأديان السابقة، مما جعله يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيات ربانية تشبه الآيات التي جاء بها المرسلون من قبل (١)، ويعارض دعوة الوحدانية بما كان قد سمعه عن آخر الأديان المنزلة (٢)، ويقارن ملة عيسى عليه السلام بعقيدة الوثنية (٣)، ومن السهل


(١) فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: ٥].
(٢) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [سورة ص: ٧].
(٣) وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: ٥٧ - ٥٨].

<<  <   >  >>