للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا كان هذا مقبولا في أمورنا البشرية فلا جدال في أنه غير مقبول على الإطلاق في أمر التشريع الإلهي المنزل لأن الله لا يرجع في قراره ولا يراجع نفسه أبدا. فكل من القاعدة التي يبطل تطبيقها، والقاعدة التي يستحدثها.، تتصف بالقداسة، وكل منهما، إذا وضعت في زمنها، تمثل الحكمة الوحيدة التي تفرض نفسها.

فسواء أكان الأمر يتعلق بالتقدم أو بالارتداد، باللين أو بالشدة، فلا يمكن التغيير في فكر المشرع، وإنما في الأحداث التاريخية ومتطلباتها للحلول المتنوعة. وأحيانا ينص صراحة في صيغة القانون الأول بأنه مؤقت (١) والغالب يكون ذلك مستترا ولا نعلمه إلا من القانون التالي له، الذي قد يوحى بأنه حل ارتجالي، بينما في الحقيقة كل شيء كان متوقعا ومرتبا بتسلسل بحسب التواريخ المحددة (٢). فمن المتفق عليه أن المشرع الناجح لا يعامل الناس في مرحلة الانتقال بنفس الطريقة التي يعاملهم بها بعد أن وصل نضجهم إلى مرحلته الأخيرة. بل على العكس يجب عليه كالطبيب الماهر، أن يغير من نظمهم حسب تقدم كفاءتهم وقدرتهم على الفهم والإدراك. فهذا المسلك التدريجي في التعليم والتشريع ليس عيبا، وإنما هو أنجح المناهج في تكوين النفوس الواعية المستنيرة المشبعة بالحكمة، والأمم المنظمة، والخلق المتين.

كان الغرض من الملاحظات التي ابداها الكتّاب الغربيون والتي فندناها في هذا الفصل هو أن يثبتوا - بناء على نقد من داخل التعاليم القرآنية - وجود بعض الاقتباسات من الوثائق الدينية «بالمدينة». فلو أنهم نجحوا في مسعاهم لكان ذلك بمثابة طريقة غير مباشرة لإثبات وجود علاقة بين الرسول صلّى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب تلقّى عن طريقها العلم عنهم. فلماذا إذن لم يتجهوا مباشرة ليضعوا أيدينا على


(١) فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (البقرة ١٠٩) وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [النساء: ١٥].
(٢) وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: ١٤٣].

<<  <   >  >>