للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّمَا شُرِعَ قُرْبَةً لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فِي وَقْتٍ مُمْتَدٍّ وَهُوَ النَّهَارُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِيمَا دُونَهُ وَجَعْلُهُ مَشْرُوعًا بِالْقِيَاسِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْأَضْحَى لَيْسَ بِصَوْمٍ بَلْ شُرِعَ لِيَكُونَ أَوَّلَ التَّنَاوُلِ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى لَوْ نَوَى النَّفَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَهُ فِي قَوْلٍ وَلَمْ يَأْكُلْ فِيمَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ.

وَفِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا حَرَمَ لِلْمَدِينَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا حَرَمٌ مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى النُّصُوصِ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ يُؤْخَذُ مِثْلُهُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا حَرَمًا مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِآلِ مُحَمَّدٍ وُحُوشٌ يُمْسِكُونَهَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَبِي عُمَيْرٍ «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَكَانَ طَيْرًا يُمْسِكُهُ» وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَمَ لَهَا كَمَا قُلْنَا وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الْبَابِ مَحْمُولَةٌ عَلَى إثْبَاتِ الِاحْتِرَامِ لَا عَلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَمِثْلُ إشْعَارِ الْبُدْنِ الْإِشْعَارُ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبُدْنِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ ثُمَّ يُلَطِّخُ بِذَلِكَ سَنَامَهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَعْلَمَ بِهِ أَنَّهَا هَدْيٌ وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ لُغَةً وَالْبُدْنُ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بَدَنَةٍ وَهِيَ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ثُمَّ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضُرَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ سُنَّةٌ فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ بَلْ الْمَفْزَعُ فِيهِ الْأَخْبَارُ وَفِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْعَرَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً.

وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنْ شِئْت فَأَشْعِرْ وَإِنْ شِئْت فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْ لَا تَنَالَهَا أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُثْلَةُ وَتَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ بِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا عَلَى الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ عَلَى الْحَدِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ.

١ -

قَوْلُهُ (وَأَمَّا صِفَتُهُ أَيْ) الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافٍ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ أَنَّهُ سُنَّةٌ أَمْ وَاجِبٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَتِهِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَوَاتِكُمْ الْخَمْسِ، أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَحَافِظُوا عَلَيْهَا» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>