وكان الناس يظنون أن الشيخ سيديّ، لا يسد أحد مسده، فلما مات، وبقى ابنه هذا في موضعه، ما تغير شيء مما كان يجريه أبوه عل الناس، إلا أن مدته لم تطل، فإنه عاش بعده سنة واحدة، وكان رحمه الله شاعرا مجيدا، وصوفيا وحيدا ومن تأمل قصائده الغزليات، وجد في أواخرها، ما يدل على إنه كان على جانب عظيم من التصوُّف، ويقال إنه لما مدح أباه بأرجوزته الطنانة التي أولها:
يا سيدي إني فداكَ اللهَ بي ... جاري الحماما عنه لي من مذهب
قال له ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن لا أعيش بعدك، فاسترجع والده، وبالجملة فكان سيدي محمد هذا، حسنة من حسنات الدهر، وترك قصائد تدل على طول باعه في الآداب، وله من النكت الأدبية، أشياء كثيرة، ومنها إنه كان له نديم، وأصله حداد، وأهل الصحراء يزعمون أن الحداين أصلهم يهود ثم أسلموا، وكان ذلك الشخص اسمه نحن، وكان يدعي إنه شريف، وكان يجيد اللقم، فأعطاه جملا على أن لا يغضب من أبيات نظمها فيه وهي:
ما هزّ عطفيْ كميٍّ يَوْمَ هيْجاءِ ... بين الأواني كذي النونين والحاءِ
فرد يقوم مقام الجمع وهو لذا ... يدعى بمضمر جمع بين أسماءِ
يسطو بأسلحة للأكل أربعة ... يدٍ وفمٍّ وبلعُومٍ وأمعْاءِ
تخال لقماتهِ العظمى براحته ... كراكر الإِبل أو جماجمَ الشاء
ما بين طلعتها فيها وغيبتها ... في فيه إلا كلمحِ الطرف للرائي
فتنهوي كدُلِيّ خان ما تِحَها ... أشْطانُها فترامَتْ بينَ أرْجاء
فبانَ أنَّ الذي يحويهِ من شرفٍ ... قد صحَّ لكنه بالهاء لا الفاء
وتزوج بامرأة من غير ان يستأذن والدته، فذهبت إليه، تصحبها عجائز، فضربنه، فكتب إلى أبيه يشكوهنَّ:
أمِنْ فعل أمرٍ في الشريعة جائز ... يروم اهتضامي بينكم كل عاجز
وكان بكم جند البغاو يهابني ... فصال علىَّ اليوم جند العجائز