فإن العكس كذلك، إذا تولى وتولاها تظهره على حقيقتها في التدلي والتدني والتخلي، مهما ادعى وسعى وحمل لافتات العلم، فأين الثرى من الثريا؟
[* الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية:]
استعرض ما تعرف من الصور المتردية قديما وحديثا. أما قديما فترد في هذا الفصل بالذات نماذج منها، حكاها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم. وحديثا أمامك هذه الحضارة أو المدينة المعاصرة. وانظر إلى حياتهم ومجتمعاتهم وتعاملهم، لا سيما من الداخل، كما يفعل أهل النظر الثاقب. ولو عرفت حالهم لجانبتهم وحذرتهم وتجنبتهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف: ١٨] .
فهذه المدنية التي ادعت التحضر والإنسانية والديمقراطية، لا تملك من ذلك مصداقية، حتى لو وجدت بعض الظواهر والمظاهر العابرة؛ لأن ما تدعيه ليس أصلا فيها، بل هو سطحي، طالما تلوثه وتحتال عليه وتمرغه، ولا يسعها غير ذلك ولا تتوقعه، فتلك طبيعتها الحقيقية وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: ٢٦] .
وهذا بظهور ومنظور المجتمع المسلم، المسلم حقا، كما يريده الله تعالى.
علما أننا لا ننكر- بل نعرف ونقدّر تماما- الجهد العلمي الكبير الذي بذلته هذه الحضارة والنتائج التي وصلت إليها والثمار التي جنتها. وإن كان كل ذلك تم لها بعد اتصالها بالعالم الإسلامي، يوم استقام له الأمر بهذا الدين، رغم النكبات والنكسات والانحسارات التي ألمت به.
وإن هذه الحصيلة التي وصلت إليها هذه الحضارة الحديثة كانت بدوافع نفعية بعيدة عن دين الله. ولذلك كان اقتباسها من العالم الإسلامي بعيدا عن مضامينه ومعانيه وأصوله من العقيدة الإسلامية والشريعة الربانية؛ لذلك كانت بلا جذور ولا قيم منظورة أو غير منظورة، لأنها بلا رقابة من قبلها ومن قبلها لله سبحانه وتعالى، مما جعلها تستبد وتغر وتتجبر بهذه النتائج