إن الذي كان يسلم- في العهد المكي- يرى ويعرف مقدما ما سيصيبه من عذاب وحرمان، ويغدو أرملا بعد أن يكون أرفلا. وفي العهد المدني يعلم ما يترتب على ذلك، تضحية وإقداما، ورضوا بكله بمحبة جامحة، وسعي حثيث، ورغبة متدفقة، مقبلة، قوية مسرعة أبية.
فموكب الهجرة دائم، حيث تبقى مهاجرا إلى الله، وتموت مهاجرا، مناديا: يا رباه! نداء يجمّل الحياة، وينميها، ويمنحها، ويعطيها، بنظر يرافقه ويناغيه، فلا يصارعه أو يباهيه. فهو ليس في صراع مع الكون والحياة، بل مع الباطل وأهله، يأتي الحق لمواجهته ليزهقه، وليا بني حضارة الإنسان، وينير دربه، ويسدد خطوه.
[* الهجرة هجرة ونصرة:]
لم تكن الهجرة خطوات لقطع طريق خطر، والنجاح في التخلص من مطارد، للوصول إلى مكان آمن، أو النجاح بانتقال مجموعة، من موطن إلى آخر جديد، إنما هي الخلوص لله والتضحية بالنفس، وكل شيء، من أجل الإسلام، فلولا الهجرة إلى الله لما كانت الهجرة، ولما كانت النصرة، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: ٢] .
وإذا تلاقت الهجرة والنصرة، فالكل في نصرة، والكل في هجرة.
وأدرك أولئك أنه لا بد أن يكون للإسلام وطن، وللشريعة سكن، فكان مرة، ولا بدّ أن تكون له الكرة، إن شاء الله.
ولعل القرن الخامس عشر يمثل باب الهجرة إن شاء الله، فيكون القرن الرابع عشر أشبه بالعهد المكي، والقرن الخامس بالعهد المدني، نبني به الحياة الإسلامية، ومجتمع الإسلام، وقيام آماله.
فهي هجرة: بين- من وإلى- حياة الجهاد والمجاهدة والاصطراع، إلى قرن تقوم فيه خلافة الإسلام ودولة الإسلام، إن شاء الله تعالى وبعونه ومنّه،