للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[* دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير:]

حتى لقد بلغت رهافة الحس ورقة الشعور وسمو النفس عند الصحابة أنهم مهما ارتقوا يجدون أنفسهم مقصرين وعملهم زهيدا، ومهما قدموا يحسبون أنهم مقلّون، ومهما أحسنوا البلاء والفداء والأداء للإسلام وهو كبير، في نفسه وحتى بالنسبة لمستوياتهم العالية، يجدونه صغيرا في جنب الله تعالى (رغم) وهم فيه أقوياء أشداء وأصلاء. وتلك طبيعة الإسلام وبناؤه وتربيته التي أقاموا أنفسهم بها وعليها. وقد استمدوا طبيعتهم من طبيعة الإسلام، يعبّرون عنه في أعلى المستويات. لا تغرهم الدنيا، وقد أتتهم، لا تغريهم ولا تلهيهم. فهم لديهم الاستعداد أن يفعلوا كل شيء مهما كان صعبا وشاقا ومكلفا، وكأنهم يتنافسون فيه. كل ذلك وهم يقدّمونه لله تعالى، يطلبون رضاه وحسن ثوابه والجزاء الكريم لديه.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرفهم جميعا ويعرف كلّا منهم، بمفرده ومدى استعداده.

ولذلك كانت مطالب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أخذ هذا الاتجاه، ليست عابئة بغيرها أو ما دونها، بل بلغت حدا فريدا ومستوى عجيبا وقمة شاهقة. ومهما كانت تكاليفها وشدتها ومشقتها، تجد لديهم الحضور والسرور والإقبال «١» وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: ٦٦] «٢» . ورغم معرفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم أنه لو طلب منهم ذلك لفعلوه. وحين نزلت هذه الآية الكريمة قال رجل (لم تذكر الرواية اسمه) : (لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا) .

انظر لهذا الاستعداد في العمل والاستجابة وكذلك في الفهم. وحين بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال


(١) التفسير، (٢/ ٦٩٢) .
(٢) انظر: التفسير، (٢/ ٦٩٧) وبعدها. تفسير الطبري، (٨/ ٥٢٦) ، (٥/ ١٦٠) .

<<  <   >  >>