فإنّ ذكرى تلك الفتوحات وتذكّرها- وهم لم ينسوها- مؤلمة مفهمة مرعبة، يعملون ويجنّدون ويضحّون كيلا تتكرر، وليس ذلك فحسب، بل وعلى طمس حقائقها، وتشويه أخبارها، وحجب وقائعها الناطقة، وللمسلمين بالذات، لتحذف من مذكراتهم وذاكرتهم.
فهم يجهدون في تصغير شأن أولئك الأبرار؛ الذين اقتدوا بصاحب السيرة الشريفة «١» صلى الله عليه وسلّم لئلا يتأثر بها من يتأثر، فيكون الذي ممكن أن يكون به. كما عرف في أوائل الدعوة الإسلامية وما بعدها في أكثر من بلد ومع أكثر من قوم، مما هو مدوّن في محفوظات التاريخ الإسلامي ومؤلفاته، معروفا وماثلا للعيان، ومحفوظا في الخواطر والنفوس والأفكار والأذهان وفي كل مكان؛ ولهذا فهم يعملون أيضا على تشويه التاريخ الإسلامي بكل سبيل قديم وجديد، مما تبتكره عبقرياتهم الشريرة، والأخيرة، أو الأجيرة.
[* جيلنا والاهتمام بالسيرة:]
ولقد كان الاهتمام بالسيرة النبوية الشريفة، وكذلك عموم السنة المطهّرة في العصور المديدة، والأجيال المتتابعة، والمواقع المتنوعة- مهما تفاوت
(١) الأمثلة كثيرة، تلك التي تبين نوعية أولئك الأبرار وفهمهم وقوتهم التي بناها هذا الدين، فكانوا تلك الصناعة العجيبة الفريدة الجديدة، فأتوا هم بالعجائب. وأحد هذه الأمثلة، والذي سبق ذكره: أنه حين ذهب وفد المسلمين قبل القادسية سنة (١٥ هـ) لمواجهة رستم قائد الفرس، فخرجوا وذهب ربعي بن عامر ليكلّمه، وجرت بينهما محادثة طويلة منها: قال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا. ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله) . قال رستم: وما موعود الله؟ قال: (الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي) . الكامل في التاريخ، ابن الأثير (٢/ ٣٢٠) .