وفلسطين أقوى الشواهد, واتَّضح أن الدعوة إلى كل النعرات الجاهلية لم ينتفع بها إلّا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى ليندمجوا مع المسلمين تحت هذا الاسم؛ لأنَّ الغرض من قيامها في الأساس هو لتحقيق هذا الهدف, فلا يبتلى بها مجتمع إلّا وأصيب بهذا الداء العضال من تراخي القبضة على الدين, ومن تمجيد تراب الوطن وكل ذرة رمل فيه, وأنه وطن مقدَّس دون غيره من بلاد الآخرين, فاخترعت له طقوس وشعارات, واخترعت له أعياد -هي غير الأعياد الإسلامية,’ ويتبادل الناس فيها التهاني والتبريكات, وتتعطل كثير من المصالح لانشغال الناس بتلك الأعياد, بينما الإسلام ليس فيه إلّا عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى, وعيد صغير هو يوم الجمعة, وطلب أقطابها من الناس أن يقدّموا دماءهم رخيصة من أجل تراب الوطن بدلًا عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل جاءت ثالثة الأثافي وهي كثرة الأماكن المقدّسة, فمرة يدعون إلى تقديس تراب الوطن كله, ومرة يدعون إلى تقديس بعض المدن أو الأماكن التي قد لا يعرف لها ذكر ولا سابقة خير, بل أحيانا يدعون إلى تقديس أماكن عرف عنها الشر, وربما وصل الحال إلى أن يختلط الأمرعلى من لا معرفة له بالأماكن المحترمة من غير الأماكن المحترمة, والمسلمون يعلمون أن الأسلام لا يدعو أحدًا إلى تقديس أيّ مكان في هذه الدنيا, ولا يجد المسلمون بلدًا تحن إليها النفوس وتترقرق عنده الدموع إلّا مكة المكرمة والمدينة النبوية, وليس ذلك لذات المكان أو لترابه, وإنما هو لما شرَّفهما الله به من جعلهما أماكن عبادة فاضلة, ومن بعثة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-