للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال بعضُ الحكماء: طَلَبُ الإنصافِ، مِنْ قلَّةِ الإنصافِ.

وقال بعضُهم: نحنُ ما رضِينا عنْ أنفُسِنا، فكيف نرضى عنْ غيرِنا!!

وقال بعضُ البلغاءِ: لا يُزهدنَّك في رجلٍ حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فَضْله، وبطنت عقله - عَيْبٌ خفيٌّ، تحيطُ به كثرةُ فضائلِه، أو ذنبٌ صغيرٌ تستغفرُ له قوةُ وسائلِه، فإنك لنْ تجِد - ما بقيت - مُهذَّباً لا يكونُ فيه عيبٌ، ولا يقعُ منه ذنبٌ، فاعتبرْ بنفسك بعدُ ألاَّ تراها بعينِ الرضا، ولا تجري فيها على حُكمِ الهوى، فإنَّ في اعتبارِك بها، واختبارِك لها، ما يُواسيك مما تطلبُ، ويعطِفك على منْ يُذنبُ، وقد قال الشاعرُ:

ومنْ ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها ... كفى المرء نُبلاً أنْ تُعدَّ معايبُهْ

وقال النابغةُ الذُّبيانيُّ:

ولست بمُسْتبْقٍ أخاً لا تلُمُّهُ ... على شعثٍ أيُّ الرِّجالِ المهذَّبِ

وليس ينقضُ هذا القول ما وصفناهُ منْ اختبارِه، واختبارِ الخصالِ الأربع فيه، لأنَّ ما اعوز فيه معفوٌّ عنهُ، هذا لا ينبغي أنْ تُوحشك فترةٌ تجدُها منهُ، ولا أنْ تُسيء الظَّنَّ في كبوةٍ تكونُ منه، ما لم تتحقَّق تغيُّره، وتتيقَّن تنكُّره، وليصرفْ ذلك إلى فتراتِ النفوسِ، واستراحاتِ الخواطرِ، فإنَّ الإنسان قد يتغيَّرُ عنْ مُراعاةِ نفسِه التي هي أخصُّ النفوسِ به، ولا يكونُ ذلك منْ عداوةٍ لها، ولا مللٍ منها. وقدْ قيل في منثورِ الحِكمِ: لا يُفسِدنَّك الظَّنُّ على صديقٍ قد أصلحك اليقينُ له. وقال جعفرُ بنُ محمدٍ لابنِه: يا بُنيَّ، منْ غضب من إخوانِك ثلاث مرَّاتٍ، فلمْ يقُل فيك سوى الحقِّ،

<<  <   >  >>