للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (١) فالفاسقونَ ها هنا هم الذين في قلوبِهِمْ زَيغٌ، وهم الضالونَ بالمَثَلِ. وإذا أنت جعلتَ المبتغينَ المتشابِهَ بالتأويلِ المنافقينَ واليهودَ المحرفينَ له دونَ المؤمنينَ كما قال الله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ} (٢) وَضَحَ لك الأمرُ، وصَحَّ ما تأولناهُ من معرفَةِ الراسخينَ بالمتشابِهِ.

° ثم قُلْتَ: إنه زَجَرَ الجميعَ عن اتباعِ المتشابهِ لابتغاءِ تأويلِهِ وإنّهُ دَلَّ بقولِهِ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} على أنّ تأويلَهُ لا يُفيدُ إلا الَفِتْنَةَ. وهذا فصلٌ من كتابِك.

• والجواب عنه: ولو كانَ زَجَر الجميعَ عن اتباع المتشابِهِ لقال: لا تتبعوا المتشابِهَ لِتَبْتَغُوا تأويلَهُ، فكان الكلامُ عامًّا، وإنّما ذَكَرَ أنَّ الذينَ في قلوبِهم الزيغُ هم المُتَبِعُونَ له المُبْتَغونَ تأويلَهُ بغيرِ الإصابةِ ليَفْتِنوا به، ويَضِلُّوا عن سبيلِ اللهِ. ورأيتُكَ قد جعلت {ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} سببًا للفتنة، ولو كان أرادَ ذلك لقال: يتبعونَ ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ بابتغاءِ تأويلِهِ. وإنّما قال: ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِهِ يريدُ بالفِتْنَةِ الكُفْرَ. والفِتْنَةُ تَنْصَرِفُ على وجوهٍ: منها الكفُر والإثمُ (٣) كقولهِ: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (٤) وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (٥) ويُريدُ بابتغاءِ تأويلِهِ التحريفَ لَهُ إمّا بالتَّعَمُّدِ لذلك أو الجهلِ بِه، ولو كان أيضًا على ما ذكرتَ من ابتغاءِ تأويلِهِ لا يُفيدُ إلا الفِتْنَةَ لم يكنْ في ذلك حُجَّةٌ إنْ كانَ إنّما يُريدُ تأويلَ


(١) سورة البقرة الآية ٢٦.
(٢) سورة آل عمران الآية ٧.
(٣) في اللسان فتن: والفتنة الكفر. وسقطوا في الفتنة أي في الإثم. وانظر القرطبي ٤/ ١٥.
(٤) الآية ٤٩ من سورة التوبة.
(٥) الآية ١٩١ من سورة البقرة.

<<  <   >  >>