للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بَابُ جَوَازِ حَبْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَإِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدَفَعَ، وَلَمْ يُحْبَسْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَأَحْلِفهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَأُخْلِيهِ، وَمَنَعْتُ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنْ قَدْ أَفَادَ مَالًا فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدَيْهِ مَالًا سَأَلْته فَإِنْ قَالَ: مُضَارَبَةً قَبِلْتُ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْكَشْفِ عَنْهُ فَمَتَى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا وَصَفْت لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ، وَلَا يَغْفُلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ، وَإِذَا أَفَادَ مَالًا فَجَائِزٌ مَا صَنَعَ فِيهِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ السُّلْطَانُ وَقْفًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ. وَإِذَا أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ السَّفَرَ، وَأَرَادَ غَرِيمُهُ مَنْعَهُ لِبُعْدِ سَفَرِهِ وَقُرْبِ أَجَلِهِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ مُنِعَ مِنْهُ، وَقِيلَ لَهُ: حَقُّك حَيْثُ وَضَعْتَهُ وَرَضِيتَهُ.

بَابُ الْحَجْرِ

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَالْبُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً إلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ الْغُلَامُ أَوْ تَحِيضَ الْجَارِيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ وَأَمَرَ وَلِيَّهُ بِالْإِمْلَاءِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِيمَا لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ فِي مَالِهِ مَقَامَهُ، وَقِيلَ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَهُوَ أَشْبَهُ مَعَانِيهِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَزَّ - بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِمْ إلَّا بِهِمَا وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَالرُّشْدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إصْلَاحِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إصْلَاحُ الْمَالِ بِأَنْ يُخْتَبَرَ الْيُتْمَانُ وَالِاخْتِبَارُ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ حَالِ الْمُخْتَبِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَذِلُ فَيُخَالِطُ النَّاسَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ فَيَقْرُبُ اخْتِبَارُهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانُ عَنْ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارُهُ أَبْعَدُ فَيُخْتَبَرُ فِي نَفَقَتِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ إنْفَاقَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَشِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يَدْفَعُ إلَيْهِ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ فَإِذَا أَحْسَنَ تَدْبِيرَهُ وَتَوْفِيرَهُ، وَلَمْ يُخْدَعْ عَنْهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ، وَاخْتِبَارُ الْمَرْأَةِ مَعَ عِلْمِ صَلَاحِهَا لِقِلَّةِ مُخَالَطَتُهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَبْعَدُ فَتَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ وَذَوُو الْمَحَارِمِ بِمِثْلِ مَا وَصَفْت فَإِذَا أُونِسَ مِنْهَا الرُّشْدُ دُفِعَ إلَيْهَا مَالُهَا تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ كَمَا يُدْفَعُ إلَى الْغُلَامِ نَكَحَ أَوْ لَمْ يَنْكِحْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمَا إلَيْهِمَا بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَزْوِيجًا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَجْرِ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا أَنْ يَحْجُرَ عَلَى مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَقَدْ عَقَلَ نَظَرًا لَهُ، وَإِبْقَاءً لِمَالِهِ فَكَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِمَالِهِ وَأَكْثَرَ إتْلَافًا لَهُ فَلِمَ لَا يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أُمِرَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بِهِ فِيهِ قَائِمٌ.

وَإِذَا حَجَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ، وَإِفْسَادِهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ، وَمَتَى أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ ثُمَّ عَادَ إلَى حَالِ الْحَجْرِ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَمَتَى رَجَعَ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى حَالِ الْإِطْلَاقِ أَطْلَقَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَجَزْت إطْلَاقَهُ عَنْهُ وَهُوَ إتْلَافُ مَالٍ؟ قِيلَ لَيْسَ بِإِتْلَافِ مَالٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمُوتُ فَلَا تُورَثُ عَنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ فِيهَا هِبَةٌ، وَلَا بَيْعُهُ، وَيُورَثُ عَنْهُ عَبْدُهُ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ ثَمَنَهُ فَالْعَبْدُ مَالٌ بِكُلِّ حَالٍ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونُ لَهُ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ دُونَ سَيِّدِهِ وَلِمَالِكِهِ أَخْذُ مَالِهِ كُلِّهِ دُونَهُ.

<<  <   >  >>