فِي هَذِهِ الْحَالِ مُتَأَوِّلِينَ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ الْحُقُوقُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَإِذَا كَانَتْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ جَمَاعَةٌ تَكْبُرُ وَيَمْتَنِعُ مِثْلُهَا بِمَوْضِعِهَا الَّذِي هِيَ بِهِ بَعْضَ الِامْتِنَاعِ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُنَالُ إلَّا حَتَّى تَكْثُرَ نِكَايَتُهُ وَاعْتَقَدَتْ وَنَصَبَتْ إمَامًا وَأَظْهَرَتْ حُكْمًا وَامْتَنَعَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ فَهَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ الَّتِي تُفَارِقُ حُكْمَ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَهَا.
فَإِنْ فَعَلُوا مِثْلَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلُوا مَا نَقَمُوا فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً بَيِّنَةً رُدَّتْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهَا بَيِّنَةً قِيلَ: عُودُوا لِمَا فَارَقْتُمْ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَتُكُمْ وَكَلِمَةُ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَاحِدَةً وَأَنْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنْ الْحُكْمِ فَإِنْ فَعَلُوا قُبِلَ مِنْهُمْ وَإِنْ امْتَنَعُوا قِيلَ: إنَّا مُؤْذِنُوكُمْ بِحَرْبٍ، فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا قُوتِلُوا وَلَا يُقَاتَلُوا حَتَّى يُدْعَوْا وَيُنَاظَرُوا إلَّا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَيُقَاتَلُوا حَتَّى يَفِيئُوا إلَى أَمْرِ اللَّهِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَالْفَيْئَةُ الرُّجُوعُ عَنْ الْقِتَالِ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ التَّرْكِ لِلْقِتَالِ أَيْ حَالَ تَرَكُوا فِيهَا الْقِتَالَ فَقَدْ فَاءُوا وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ مَنْ يُقَاتِلُ فَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْ حَرُمَ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُقَاتَلَ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَإِنَّمَا يُقَالُ: اُقْتُلُوهُ لَا قَاتِلُوهُ.
نَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدَبَّرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَأَتَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ صِفِّينَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ لَا أَقْتُلُك صَبْرًا إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَالْحَرْبُ يَوْمَ صِفِّينَ قَائِمَةٌ وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا مُنْتَصِفًا أَوْ مُسْتَعْلِيًا فَبِهَذَا كُلِّهِ أَقُولُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةً مُمْتَنِعَةً فَحُكْمُهُ الْقِصَاصُ قَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، وَقَالَ لِوَلَدِهِ: إنْ قَتَلْتُمْ فَلَا تُمَثِّلُوا وَرَأَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَقَتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي النَّاسِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا أَنْكَرَ قَتْلَهُ وَلَا عَابَهُ أَحَدٌ وَلَمْ يُقَدْ عَلِيٌّ - وَقَدْ وَلِيَ قِتَالَ الْمُتَأَوِّلِينَ - وَلَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ الْمُمْتَنِعَ مِثْلُهَا عَلَى التَّأْوِيلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا عَلَى الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ بِارْتِدَادٍ إذَا تَابُوا قَدْ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَمْ يَضْمَنْ عَقْلًا وَلَا قَوَدًا فَأَمَّا جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعَةٌ غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ قَتَلَتْ وَأَخَذَتْ الْمَالَ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ هُنَاكَ مَا وُضِعَ عَنْهُمْ هَهُنَا وَهَذَا أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْقِيَاسِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ وَأَكْفَرُوهُمْ لَمْ يَحِلَّ بِذَلِكَ قِتَالُهُمْ. بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ قَتَلُوا وَالِيَهُمْ أَوْ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصِبُوا إمَامًا أَوْ يُظْهِرُوا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِمَامِ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ قَدْ سَلَّمُوا وَأَطَاعُوا وَالِيًا عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ ثُمَّ قَتَلُوهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ ادْفَعُوا إلَيْنَا قَاتِلَهُ نَقْتُلُهُ بِهِ، قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا نَحْكُمُ عَلَيْكُمْ قَالُوا: لَا، فَسَارَ إلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَأَصَابَ أَكْثَرَهُمْ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا قَاتَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَوْ عَبْدٌ أَوْ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ قُوتِلُوا مُقْبِلِينَ وَتُرِكُوا مُوَلِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْإِسَارِ، وَلَوْ أُسِرَ بَالِغٌ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ فَحُبِسَ لِيُبَايِعَ رَجَوْت أَنْ يَسَعَ وَلَا يَسَعُ أَنْ يُحْبَسَ مَمْلُوكٌ وَلَا غَيْرُ بَالِغٍ مِنْ الْأَحْرَارِ وَلَا امْرَأَةٌ لِتُبَايِعَ، وَإِنَّمَا يُبَايَعُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُنَّ لَا جِهَادَ عَلَيْهِنَّ فَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ فَلَا يُحْبَسُ أَسِيرُهُمْ وَإِنْ سَأَلُوا أَنْ يُنْظَرُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا عَلَى مَا يَرْجُو الْإِمَامُ مِنْهُمْ وَإِنْ خَافَ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ رَأَيْت تَأْخِيرَهُمْ إلَى أَنْ تُمَكِّنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ.
وَلَوْ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ قُتِلَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَسُبُوا وَلَا يَكُونُ هَذَا أَمَانًا إلَّا عَلَى الْكَفِّ فَأَمَّا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ فَقَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ كَانَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ قَالَ: وَأَرَى إنْ كَانُوا