يبتدئ العصر الحفصي بإمارة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي -صاحب الإمام المهدي- على البلاد التونسية، عام ٦٠٣ هـ، وينتهي بعد ذلك سنة ٩٨١ هـ، وقد تقلبت السلطنة في هذا المجال الزمني بين دَعَةٍ وأمن، واختلالٍ وفسادِ حال؛ وليس وكْدُنا تقرير ما أطنب المؤرخون فيه؛ وإنما القصد أن نبرز بعض ما أحاط به ملوك بني حفص العلم من عناية ورعاية.
شهد هذا العصر احتفالا بالعلم وأهله، واستطاع النشاط العلمي أن يغدوَ ميْسما لازباً لتونس، تُذكر فيُذكر، ويُعرف فلا يُنكر، حتى إن الرحالةَ العبْدري، وهو النَّقادة الذي "ما رأيناه مَدح بلدةً ولا سكانهَا إلا مدينة تونس" -حسبما أفاد ابن عبد السلام الناصري فى الرحلة الحجازية- يعطف على هذه البلدة سنة ٦٨٨ هـ، فيُلْفى فيها أخْدَانه سَدَنَةَ العلم وأضرابَه في الطلب، ويُسَرِّح طرْفه وفكره فيما تلذّه الأنفس وتقرّ الأعين من الأنظار العقلية والأبحاث العلمية الجارية بين علماء الحضرة، فلا تمنعه محاققتُه الفذّةُ من أن يقول عن تونس: إنه "لا تنْشُدُ بها ضالةً من العلم إلا وجدتها ولا تلتمسُ فيها بغيةً معْوِزة إلا استفدتَها؛ أهلُها ما بين عالم كالعَلَم رافع بين أهله للعِلم، ومعطِّل حدَّ الظُبى بالقلم".
بل إن العبدري يُثبت أنه قد أقفر ما بين المغرب وتونس من العلم، ولم يجد له رسما إلا عندما دخلها، وذلك حَادِيهِ للقول: "ولولا أني دخلتُها لحكمت بأنَّ العلم في أفق