وهذه النهضة العلمية التي يشيد بها هؤلاء العلماء الرُّحْلة، هي في بعض منها، من ثمار الحظوة التي حازها حملة العلم عند بني حفص، هؤلاء الذين "حرصوا على تشجيع العلماء وتنشيطهم والمساعدة لهم، فأقاموا بذلك على أيديهم دولة باهرة، وحضارة زاهرة". وقد درأت هذه العناية ابن حريز، لينشئ ديوانا في مدح الحفصيين، سماه "مهبّ نواسم المدائح ومصب غمائم المنائح في مدح الخلافة الحفصية"، وصفات الرجل التي خلعها عليه البلوى تمنع مظنة التزلف والانتجاع، فقد كان الرجل كريما يُقصد ولا يقصد، فمدْحُه يصادف محلا:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... ما لم يجدوا عنده آثار إحسان
وقد أدرك الفقهاء سطوة لدى الحفصيين، بَلَغَ من قدرها في العهد الحفصي الأول أن كان للفقهاء دورٌ حتى في خلْعِ أو تعْيين الخليفة، "فقد كان لرجال الدولة الحفصية الحظّ الأوفر من نصرة الحق وإعانة القضاة على إجرائه، فوسَّعوا للقاضي في السلطة والنفوذ، وأعانوه على المباشَرة، ومكَّنوه حتى من أنفسهم وبنيهم"؛ مِن ذلك ما حُكي عن أبي محمد المرجاني (ت ٦٩٩ هـ)، وذلك أنه لما مرض أبو حفص عمر، عُهد بالملك لولده عبد الله، فتحدث الموحدون والفقهاء والقاضي مع المرجاني المذكور، تحدثوا معه في أن الولد صغير، واتفق رأيهم على أبي عبد الله المعروف بأبي عصيدة، ابن الواثق بالله بن المستنصر.
ولم يكن يمتنع عن الفقهاء والقضاة في إجراء الأحكام الأمراءُ فمَنْ دونَهم، فمن ذلك أن أبا عبد الله المعروف بأبي ضربة، لما فَرَّ والدُه وبويع هو إنما أُخْرج من السجن بعد أن كان مثقَّفاً على يد قاضى الوقت أبي إسحق بن عبد الرفيع (ت ٧٣٣ هـ)، بسبب جناية.