وعلى كثرة المترجمين لابن عرفة، تبدو ترجمة البسيلي له أصيلة من حيث إنه تلميذه، وباعتبار أنها كتبت بعد وفاته، فهي شهادةٌ حية لا يخامر الشكُّ في صدقها؛ ناهيك عن اهتمامها بالجانب الوجداني والاجتماعي الذي تغفل عنه كتب التراجم غالبا. وهذا سياق نصين من "نكت وتنبيهات"، ونص ثالث من "التقييد الكبير" تترجم كلها لابن عرفة.
- النص الأول:
"قلت: وولد شيخنا أبو عبد الله محمد بن عرفة سنةَ ستَّ عشْرَة وسبعمائة، وتوفي رحمه الله ضَحْوَةَ يوم الثلاثاء، الرابع والعشْرينَ لشهرِ جُمَادَى الأُخْرى، عام ثلاثة وثمانمائةٍ، ودُفِنَ بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء غَدَ تارِيخِه، وله من العمر ستَّةٌ وثمانونَ عاماً وأَشْهُر؛ وحج حجة الفريضة؛ كان خروجه لذلك من تونس بعد صلاةِ الظهر مِنْ يوم الإثنين الحادي والعِشْرينَ لشهرِ جُمَادَى الآخِرَةِ من عام اثنين وتسعين وسبعمائةٍ، وقدَ كان بلغ في تفسيرِ القُرآنِ إلى قوله تعالى:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السًاعَة}، ورجع من حجه فدخل تونس يوم الثُّلاثَاءِ، التاسع عشَرَ لشهر جمادى الأُولى، مِن عام ثلاثة تِسْعيَن وسبعمائةٍ قرب الزوال. وحَبَّسَ قبل موته كثيرا من الرّبَاع، وتصدق قرب موته بمالٍ كثيرِ، وترك موروثا عنه ما قيمته ثمانيةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينارٍ ذَهَبَاً كبيرة، ما بين عَيْنٍ ودراهم وحُلِيٍّ وطعام ورِباع وكتب؛ وكان رحمه الله مستجاب الدعاء.
وَممَّا رأيت من بركته، أنِّي كنتُ أجلسُ قُبَالَتَهُ بمجلسِ تدريسِه، فرُبَّمَا تكلَّمَ مَعِي بمَا يقع في خاطِرِي.
وَأَخبرنيِ عنهُ عم والِدِي، الشَّيخُ الصالِحُ الزاهِدُ العَابِدُ أَبُو فارِس عبدُ العزيزِ البَسِيلِي، أنه رَأَى في نوْمِهِ بعضَ مَنْ كانَ مُعَاصِرًا لشيخِنَا ابنِ عَرَفَةَ، وَهُوَ الشيخُ الفقيهُ المفْتي القاضِي أبُو العبَّاسِ أحمدُ بنُ حَيْدَرَةَ -وكانَ في نفسِهِ منْهُ شيءٌ- فقالَ له: اطلُبْ لي منْهُ المُحَالَّةَ لأنِّي رأيتُ لهُ منزلةً عظيمةً عندَ اللهِ تَعَالى فقال له نعم. قالَ لي العَمُّ: فالْتَقَيتُ