يثبت من متونها بما لا يثبت، وذلك من غير "المصحيحين" لتلقي العلماء لهما بالقبول وسلامتها من الأحاديث الضعيفة والمنكرة التي كثرت في كتب السَنة الأخرى، كالسنن الأربعة وغيرها. وكنت بدأت في ذلك الحين في تحقيق الكتاب الأول منها، ألا وهو "سنن أبي داود"، فجعلت منه كتابين: "صحيح سنن أبي داود" و"ضعيف سنن أبي داود"، وكلاً منها على قسمين: أعلى. وأدنى أوردت في الأول منهما متن الحديث، معقباً إياه ببيان مرتبته في الصحة أو الضعف. ونزلت بالإسناد إلى القسم الأدنى، وتكلمت عليه بشيء من البسط على ما تقتضيه قواعد علم الحديث، مع تخريج الحديث وبيان مَن رواه من أصحاب الكتب الستة الأخرى وغيرها.
ومن يومئذ، والنفس تحدثني بضرورة اختصار "صحيح مسلم" وتيسير الانتفاع به للناس؛ لأن أكثرهم لم يبقَ عنده من الرغبة في العلم ما يحمله على قراءة السند -وهو الوسيلة- حتى يصل إلى المتن وهو الغاية، لا سيما الشباب المثقف منهم الذين لم يدرسوا العلوم الشرعية، والذين عوّدوا بحكم دراستهم
العصرية على أخذ علومهم بصورة مبسطة لا تعقيد فيها ولا غموض.
ولكن انشغالي بـ "السنن" وغيره بما هو أهم عندي وألصق بتخصصي، كان يحول بيني وبين اختصاره. فكنت أتمنى أن يتاح لي الوقوف على من قام بذلك من العلماء المتقدمين لأقوم بنشره، وأنا أعم أن للإمام النووي كتاباً في ذلك، محفوظاً في المكتبة الظاهرية بدمشق، ولكن الجزء الأول منه غير موجود.
ثم وقفت على كتاب "السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج"- المطبوع في الهند سنة ١٣٠٢ هـ للعلامة المحقق أبي الطيب صديق حسن خان القنوجي رحمه الله تعالى، فإذا هو شرح لـ "مختصر مسلم" للحافظ المنذري رحمه الله تعالى، ففرحت بذلك فرحاً شديداً.
ثم إنني بعد استنساخ "مختصر مسلم" تفرغت له، وأقبلت على تحقيقه، فقابلته بأصله المنسوخ عنه، ثم بأصل أصله، ألا وهو "صحيح مسلم"، وعزوت كل حديث إليه بذكر محله منه جزءاً وصفحة (١).
وعلّقت عليه تعليقات مفيدة مختصرة، في شرح غريبه، وتوضيح بعض جمله، استفدت غالبه من شرحه "السراج الوهاج" وهو المراد من قولي "كذا في الشرح" عند الاطلاق. وتكلمت أحياناً على بعض متونه، ورواته أحياناً، بما يقتضيه علم الحديث وقواعده، تأدية للأمانة العلمية، ونصحاً للأمة.
…
ثم رغبت وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة الكويت أن يصدر الكتاب باسمها، حيث كان الكتاب مدرجاً في خطتها لإحياء التراث الإِسلامي، فم أمانع في ذلك، بل شكرت لها رغبتها، وحرصها على نشر مثل هذه الكتب.
ومع أن الكتاب كنت قد حققته على "صحيح مسلم" كما سبق بيانه، فقد تبين أن من شرط
(١) وهذه صورة العزو: (م ٥/ ٦٤) (م) ترمز لصحيح مسلم. والرقم الأول (٥) يشير إلى الجزء والرقم الثاني (٦٤) يشير إلى الصفحة. وذلك من طبعة استنبول.