وتعتقد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بأن للأقنوم الثاني طبيعتين ومشيئتين، ومن هذا نرى أن الكنائس كلها تعتقد التثليث، وهذا هو موضع اتفاق. ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو الجسد الذي تكون من الروح القدس ومن مريم العذراء الذي باختلاطه بالعنصر الإلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان؟.
٦٨- ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها إنهم متغايرون وإن اتحدوا في الجوهر والقدم، والصفات، والتشابه بينهم كامل، ولكن كتابهم يحاولون أن يجعلوهم جميعاً أقانيم لشيء واحد، وبعبارة صريحة يحاولون الجمع بين التثليث والوحدانية، ولكن عند هذه المحاولة تستغلق فكرة التثليث، وتصير بعيدة عن القصور، كما هي في ذاتها مستحيلة التصديق، وإن كتابهم أنفسهم يعتقدون أنها بعيدة التصور عند هذه المحاولة، لأن من أصعب الأشياء الجمع بين الوحدانية والتثليث.
فنرى صاحب رسالة الأصول والفروع بعد بيان عقيدة التثليث، يقول:"قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية" أي أن عقيدة التثليث لا يمكن أن تنكشف للنفس على وجهها إلا يوم تتجلى كل الأشياء لها يوم القيامة، وذلك حق، فإنهم لا يعلمون حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها.
لماذا يحاولون الجمع بين الوحدانية والتثليث:
ولماذا شغف النصارى بذكر التوحيد بجوار التثليث، أو على الأقل يجتهد بعضهم في بيان إنه لا منافاة بينهما؟ لعل الذي يدفعهم إلى ذلك هو اعتبارهم التوراة كتاباً مقدساً عندهم، وهي تصرح بالتوحيد، وتدعو إليه، وتحث عليه، وتنهي عن الشرك بمل شعبه، وكل أحواله، بل تدعو إلى البراءة من المشركين أينما كانوا، وحيثما تقفوا.