لا يشكّ في ذلك إلا من قصرت معرفته بالأحوال النّبوية والآثار الصّحابية.
فإن قيل: أليس قد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجدال في قوله تعالى:((وجادلهم بالتي هي أحسن)) [النحل/١٢٥] فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنّ الله تعالى قيّد ذلك بالتي هي أحسن, ولم يأمره بمطلق الجدال والنزاع, إنّما هو في كيفية ذلك وتفسير التي هي أحسن. وحجّة المحدّثين فيه واضحة, وذلك أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتثل ما أمر به من الجدال في هذه الآية, ومع ذلك فلم ينقل عنه أنّه جادل بأساليب المتكلّمين وهذا واضح, وكذلك جميع ما أخبر الله تعالى به عن الأنبياء ... -عليهم السّلام- من مجادلة الكفّار والاحتجاج عليهم, فإنّه لا يعجز عن مثله محدّث ولا يطابق أساليب أهل الكلام, مثل ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - في قوله للذي حاجّه في الله تعالى:((فإنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب)) [البقرة/٢٥٨] ومثل ما علم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحاجّهم به في قوله تعالى:((قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد, قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كلّ شيء شهيد)) [سبأ/٤٦ - ٤٧].
ومثل ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك؛ ففي ((الصّحيحين)) (١) من حديث
(١) البخاري ((الفتح)): (٨/ ٤٠٠) , ومسلم برقم (٢٠٨). واتفقا عليه -أيضاً- من حديث أبي هريرة