فَكتب جَوَابه اعْمَلْ واستغفر الله تَعَالَى من الْعجب وَله من هَذَا شَيْء كثير وكراماته مَجْمُوعَة.
وَأما عَمه الشَّيْخ أَبُو النجيب عبد القاهر فَكَانَ شيخ وقته بالعراق، ولد بسهرورد سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة تَقْرِيبًا، وَقدم بَغْدَاد وتفقه بالنظامية على اِسْعَدْ الميهني وَغَيره.
ثمَّ سلك طَرِيق الصُّوفِيَّة وَانْقطع عَن النَّاس مُدَّة مديدة، وبذل الْجهد فِي الْعَمَل، ثمَّ رَجَعَ ودعا النَّاس إِلَى الله فَرجع بِسَبَبِهِ خلق كثير إِلَى الله تَعَالَى، وَبنى رِبَاطًا على الشط من الْجَانِب الغربي بِبَغْدَاد، وسكنه جمَاعَة من أَصْحَابه، ثمَّ ندب إِلَى التدريس بالنظامية سنة خَمْسَة وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فِي الْمحرم فَأجَاب وَظَهَرت بركته على تلامذته، ثمَّ تَركهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَقدم الْموصل مجتازاً إِلَى الْقُدس سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَعقد بالجامع الْعَتِيق مجَالِس الْوَعْظ، ثمَّ وصل دمشق وَلم يتَّفق لَهُ الزِّيَارَة لانفساخ الْهُدْنَة مَعَ الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَأكْرم الْعَادِل نور الدّين مورده وَعقد بِدِمَشْق مجْلِس الْوَعْظ، وَعَاد إِلَى بَغْدَاد، وَتُوفِّي بهَا يَوْم الْجُمُعَة وَقت الْعَصْر سَابِع عشر جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وكراماته مَشْهُورَة مَجْمُوعَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار النَّاصِر دَاوُد من الكرك إِلَى بَغْدَاد إِلَى الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر خوفًا من عَمه الْكَامِل وَقدم لَهُ تحفاً وجواهر نفيسة فَأكْرمه الْمُسْتَنْصر وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه.
وَكَانَ يظنّ أَن الْخَلِيفَة يستحضره فِي الْمَلأ، كَمَا استحضر مظفر الدّين صَاحب إربل، والح فِي ذَلِك فَلم يجبهُ، فمدح الْمُسْتَنْصر بِقَصْدِهِ وَعرض بذلك مِنْهَا:
(فَأَنت الإِمَام الْعدْل والمعرق الَّذِي ... بِهِ شرفت أنسابه ومناصبه)
(أيحسن فِي شرع الْمَعَالِي ودينها ... وَأَنت الَّذِي تعزى إِلَيْك مذاهبه)
(بِأَنِّي أخوض الدو والدو مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه)
(وَقد رصد الْأَعْدَاء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه)
(وتسمح لي بِالْمَالِ والجاه بغيتي ... وَمَا الجاه إِلَّا بعض مَا أَنْت واهبه)
(ويأتيك غَيْرِي من بِلَاد قريبَة ... لَهُ الْأَمْن فِيهَا صَاحب لَا يجانبه)
(فَيلقى دنواً مِنْك لم ألق مثله ... ويحظى وَمَا أحظى بِمَا أَنَّك طَالبه)
(وَينظر من لألاء قدسك نظرة ... فَيرجع والنور الإمامي صَاحبه)
(وَلَو كَانَ يعلوني بِنَفس ورتبة ... وَصدق وَلَاء لست فِيهِ أصاقبه)
(لَكُنْت أسلي النَّفس عَمَّا أرومه ... وَكنت أذود الْعين عَمَّا أراقبه)
(وَلكنه مثلي وَلَو قلت إِنَّنِي ... أَزِيد عَلَيْهِ لم يعب ذَاك عائبه)
(وَمَا أَنا مِمَّن يمْلَأ المَال عينه ... وَلَا بسوى التَّقْرِيب تقضي مآربه)
وَكَانَ الْخَلِيفَة متوقفاً عَن استحضاره رِعَايَة للْملك الْكَامِل فَجمع بَين المصلحتين واستحضره لَيْلًا ثمَّ عَاد إِلَى الكرك.