وقد أتم الله هذه النعمة ببعثة خاتم النبيين وإمام المرسلين وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأكمل به الدين وأتمّ به النعمة، وقضى جلّ في عُلاه بحكمته ولطفه وكرمه ألا ينقطع فضلُه ومنُّه على عباده، فتكفل سبحانه بحفظ ذلك النور الذي أرسله به، فببقائه تبقى النعمة وتزول النقمة، فحفظ الكتاب في الصدور والصحف {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: ٤٢]. وقيض للأمة من يحفظ السنة من الحملة الصادقين الموثوقين والعلماء الربانيين المؤيدين بالتأييد الرباني، الذين رزقهم من الحفظ والذكاء ما مكنهم به من حفظ السنة النبوية وتدوينها، ووضْعِ سياجٍ عليها يصونها من أن تكون فريسةً لأباطيل من رام الخلط على الأمة في سنة نبيها من الوضّاعين والملاحدة، أو لأوهامِ وأغلوطاتِ من لم يُحكم ضبطَ المرويات. وقد بذل هؤلاء الجهابذةُ من العلماء أقصى الجُهد في وضع علم هو من مبتكرات هذه الأمة وخاصيتها التي خصها الله بها، ألا وهو علم الحديث رواية ودراية، فرد الله بهؤلاء الفرسان وبسهام هذا العلم الذي ابتكروه أعنف غارة عرفها تاريخ البشرية، فردوا كيد الكائدين وحُفظتْ سنةُ سيد المرسلين.
والغاية القُصوى من هذا العلم هي معرفة صحة الحديث وسقمه، وجميع فنونه ومباحثه مسخرة لتحصيل هذه الغاية، واستمداده من نقد العلماء الجهابذة للمرويات ولنقلة الأخبار بما خصهم الله به من فضيلة المعرفة والعدالة والورع، وهؤلاء العلماء لم يزالوا في كل دهر وزمان، من لدن عهد الصحابة إلى أن دونت السنن وتم وضع معالم علم السنة رواية ودراية. فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم قصب السبق في نقد المرويات والرواة، ومواقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نقدها