للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من قَول ذَات النطاقين لابنها

دخل عبد الله بن الزبير على أمه أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْيَوْم الَّذِي قتل فِيهِ، فَقَالَ: يَا أمة؛ خذلني النَّاس حَتَّى أَهلِي وَوَلَدي وَلم يبْق معي إِلَّا الْيَسِير وَمن لَا دفع عِنْده أَكثر من صَبر سَاعَة من النَّهَار. وَقد أَعْطَانِي الْقَوْم مَا أردْت من الدُّنْيَا فَمَا رَأْيك؟ قَالَت: إِن كنت على حق تَدْعُو إِلَيْهِ فَامْضِ عَلَيْهِ، فقد قتل عَلَيْهِ أَصْحَابك، وَلَا تمكن من رقبتك غلْمَان بني أُميَّة فيتلعبوا بك. وَإِن قلت: إِنِّي كنت على حق فَلَمَّا وَهن أَصْحَابِي ضعفت نيتي فَلَيْسَ هَذَا فعل الْأَحْرَار، وَلَا فعل من فِيهِ خير، كم خلودك فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْل أحسن مَا تقع بِهِ يَا بن الزبير. وَالله لضربة بِالسَّيْفِ فِي عز أحب إِلَيّ من ضَرْبَة بِسَوْط فِي ذل. قَالَ لَهَا: هَذَا وَالله رَأْيِي، وَالَّذِي قُمْت بِهِ دَاعيا إِلَى الله. وَالله مَا دَعَاني إِلَى الْخُرُوج إِلَّا الْغَضَب لله عز وَجل أَن تهتك مَحَارمه. وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَن أطلع رَأْيك فيزيدني قُوَّة وبصيرة مَعَ قوتي وبصيرتي. وَالله مَا تَعَمّدت إتْيَان مُنكر وَلَا عملا بِفَاحِشَة، وَلم أجر فِي حكم، وَلم أغدر فِي أَمَان، وَلم يبلغنِي عَن عمالي فرضيت بِهِ. بل أنْكرت ذَلِك وَلم يكن شَيْء عِنْدِي آثر من رضَا رَبِّي. اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُول ذَلِك تَزْكِيَة لنَفْسي، وَلَكِن أقوله تَعْزِيَة لأمي لتسلو عني. قَالَت لَهُ: وَالله إِنِّي لأرجو أَن يكون عزائي فِيك حسنا بعد أَن تقدمتني أَو تقدمتك، فَإِن فِي نَفسِي مِنْك حرجاً حَتَّى أنظر إِلَى مَا يصير أَمرك. ثمَّ قَالَت: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طول ذَاك النحيب والظمأ فِي هواجر الْمَدِينَة وَمَكَّة وبره بِأُمِّهِ. اللَّهُمَّ إِنِّي قد سلمت فِيهِ لأمرك، ورضيت فِيهِ بِقَضَائِك، فاثبني فِي عبد الله ثَوَاب الشَّاكِرِينَ. فودعها وَقَالَ: يَا أمه لَا تَدعِي الدُّعَاء لي قبل قَتْلِي وَلَا بعده. قَالَت: لن أَدَعهُ لَك. فَمن قتل على بَاطِل فقد قتلت على حق. فَخرج وَهُوَ يَقُول: فلست بمبتاع الْحَيَاة بسبة ... وَلَا مرتق من خشيَة الْمَوْت سلما وَقَالَ لأَصْحَابه: احملوا على بركَة الله. وَحَارب حَتَّى قتل.

<<  <  ج: ص:  >  >>