[أقسام الناس عند الميزان]
بين الله تعالى أن الميزان إن ثقل ولو بحسنة واحدة فقد سعد صاحبه سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف الميزان ولو بسيئة واحدة فقد شقي صاحبه شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، قال جل وعلا: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠١ - ١٠٤].
فمن ثقل ميزانه ولو بحسنة سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، ومن خف ميزانه ولو بسيئة شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، أما من استوت موازينه بأن تساوت حسناته مع سيئاته، فهؤلاء -على الراجح- هم أهل الأعراف الذين يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، وهؤلاء قصرت بهم سيئاتهم فلم يدخلوا الجنة، ومنعتهم حسناتهم من أن يدخلوا النار، فحبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا التفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة سلموا عليهم، كما قال عز وجل: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:٤٦].
أي: لم يدخل أهل الأعراف الجنة وهم يرجون رحمة الله، ويطمعون أن يدخلهم الجنة، فإذا ما التفتوا إلى الناحية الأخرى ورأوا أهل الجحيم في الجحيم؛ تضرعوا إلى الملك العليم ألا يجعلهم مع القوم الظالمين، كما قال جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٦ - ٤٧].
إذاً: أيها المسلم! حري بك إذا ما تعرفت على أقسام الموازين الثلاثة ألا تحتقر أي عمل صالح وإن قل، وألا تستهين بمعصية وإن صغرت، فبحسنة واحدة قد يثقل الميزان، وبسيئة واحدة قد يخف الميزان، بل بكلمة واحدة قد تنال رضوان الرحمن، وبكلمة واحدة قد تنال سخط الجبار سبحانه وتعالى.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم).
فقد يستهين كثير منا بخطورة الكلمة، وكم من كلمات أشعلت حروباً بين أمم ودول؟! بل بكلمة يهدم بيت، وبكلمة يدخل المرء دين الله، وبكلمة يخرج المرء من دين الله، وبكلمة يستحل الرجل فرج امرأة، وبكلمة يحرم عليه فرجها؛ فالكلمة لها خطرها في دين الله، فبكلمة تنال الرضوان، وبكلمة قد يتعرض المرء لسخط الرحمن، فحسنة قد تدخل العبد الجنة؛ لأنها تثقل ميزانه، وسيئة قد تدخل العبد النار؛ لأن بها يخف ميزانه عند الملك القهار جل وعلا.
ولذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
فلا تقل: هذا عمل بسيط، وهذه طاعة صغيرة أو حقيرة؛ فكم من عمل صغير عظمته النية! وكم من عمل عظيم صغرته النية! فلو تصدقت بجنيه واحد لله، والله يعلم فقرك، ويعلم منك حاجتك له، فربما سبق جنيهك هذا ملايين الجنيهات لغيرك من الأغنياء، والله أعلم بحالك وحالهم.
فلا تحقرن من المعروف شيئاً؛ فإن عجزت عن بعض الأشياء؛ فإنك لن تعجز -أيها المسلم- أن تهش وتبش في وجه إخوانك، ولو أن تلقاهم بوجه طليق، فما من بيت يخلو من المشاكل، ولكن ما ذنب إخوانك إن خرجت إليهم بوجه عبوس، فكن كما قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
بل لقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (إن بغياً -أي: زانية- من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب -كيف ذلك؟! - مرت على كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت موقها -أي: خفها- ماءً وقدمته للكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك) أود أن أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟! فنحتاج إلى رحمة، فالرحمة والرفق -يا شباب- يصلحان ولا يفسدان أبداً، والشدة والعنف -يا شباب- يهدمان ويفسدان ولا يصلحان أبداً، وهذه سنة الله في خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه).
وقد حدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن امرأة حبست هرة -أي: قطة- فدخلت بسببها النار.
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وجاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
أي: ولو بنصف تمرة تتصدقون بها لوجه الله، فقد ينجو العبد من النار بشق تمرة، فإن ثقل الميزان بحسنة سعد صاحب هذه الحسنة سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، وإن خف الميزان بسيئة شقي العبد شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، وإن تساوت الموازين فهؤلاء هم أهل الأعراف، والراجح من أقوال كثيرة لأهل العلم: أن الله جل وعلا يتغمدهم برحمته، فيدخلهم الجنة.