[حديث المرور على الجسر وحال المنافقين عليه]
أعرني قلبك وسمعك! فها هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى يبين لنا بأسلوبه النبوي البليغ المعجز الرائع الجامع لبيان الكلم، يبين لنا هذا المشهد المهيب مشهد المرور على الصراط، بل إن شئت فقل: يجسد لنا هذا المشهد الذي يخلع الفؤاد، ففي الصحيحين -وهذا لفظ مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال المصطفى: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ -أي: هل تشعرون بشيء من المشقة والتعب في رؤية القمر ليلة البدر؟ - فقالوا: لا، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فهل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ -أي: هل تشعرون بشيء من المشقة والتعب في رؤية الشمس إن لم تحجبها السحب؟ - قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: فإنكم ترونه كذلك.
يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول جل وعلا: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت،-اللهم إنا نشهدك بأنا نعبدك وحدك لا شريك لك، ونبرأ إليك من الطواغيت والأرباب والآلهة والأنداد- وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها -تبقى أمة الحبيب ويندس في صفوف الأمة المنافقون المجرمون- فيأتيهم الله تعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول الله جل وعلا لهم: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول جل وعلا: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)، وينطلق المنافقون المجرمون مع أهل الإيمان، يظن المنافقون أنهم سيخدعون الله، فقد خدعوا المؤمنين في الدنيا، وسيخادعون الله يوم القيامة! فيندس المنافقون في صفوف المؤمنين، ويقولون مع أهل الإيمان: نعم أنت ربنا! فيتبعونه، وينطلق المنافقون ليتبعوا رب العالمين مع المؤمنين! وهنا يلقي الله على أهل الموقف ظلمة حالكة السواد، لا يستطيع أحد في أرض الموقف أن يخطو خطوة واحدة إلا بنور، روى مسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله! أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال المصطفى: (يا عائشة! هم في الظلمة دون الجسر)، وفي لفظ في مسلم: قال: (هم على الصراط، فيلقي الله ظلمة حالكة السواد لا يستطيع مخلوق أن يتحرك إلا بنور، وهنا يقسم الله الأنوار، قال ابن مسعود: فمنهم من يكون نوره كالجبل -هنا يقسم الله الأنوار بقدر الأعمال- ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه -أي: على أصبع قدمه الكبير- يتقد مرة وينطفئ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية)، وأثر ابن مسعود رواه أحمد والحاكم وابن حبان وابن أبي حاتم، وصححه الألباني وغيره، قال الله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨]، يقسم الله الأنوار على أهل الإيمان كل بحسب عمله في الدنيا، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:١٢].
وإذا أراد المنافقون أن يقتربوا من الصراط سلب الله نورهم، أو كما قال الضحاك: طفئ نور المنافقين، فيتمايز أهل النفاق من أهل الإيمان، فإذا رأى أهل الإيمان نور المنافقين طفئ على الصراط وجلوا وأشفقوا، وقالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨]، حينئذ يرى أهل النفاق في الظلمات الحالكة أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد ينطلقون على الصراط فينادي المنافقون أهل الظلمات على أهل الإيمان من أهل الأنوار: يا أهل الإيمان! يا أهل الأنوار! انظرونا نقتبس من نوركم، لا تتركونا في هذه الظلمات الحالكة السواد! انتظرونا لنمشي في رحاب أنواركم.
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:١٣]، وهذا من جنس الخداع للمنافقين كما خادعوا الله في الدنيا {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] هذه هي اللحظات الحرجة! (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ} [الحديد:١٣ - ١٤] أي: ينادي أهل النفاق أهل الإيمان أهل الأنوار: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:١٤] ألم نصل معكم الجمعات؟! ألم نحضر معكم الجماعات؟! ألم نشهد معكم الغزوات؟! ألم نقف معكم على عرفات؟! ألم نؤد معكم سائر الواجبات؟! {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:١٤] أي: بالشهوات والمعاصي والملذات والذنوب والشبهات.
{وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:١٤] أي: بالحق وأهله والسنة وأهلها.
{وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:١٤] تشككتم في البعث والميزان والصراط والنار.
(وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:١٤] حتى جاءكم الموت، وانتقلتم من علم اليقين إلى عين اليقين، عاينتم الحقائق بأعينكم، فرأيتم الميزان، ورأيتم الصراط، ورأيتم النيران)) وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:١٤ - ١٥].
اللهم نجنا من النار، واجعلنا من أهل الأنوار، برحمتك يا عزيز يا غفار! تدبر معي قول حبيبنا المختار صلى الله عليه وسلم، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيقول الله جل وعلا: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب الصراط على ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز) فلا يجوز الصراط نبي قبل الحبيب محمد، ولا تجوز الصراط أمة قبل أمة الحبيب محمد، وهذه كرامة أخرى لهذه الأمة الميمونة الكريمة، ففي سنن ابن ماجة بسند صحيح من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة، فيقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)، وفي رواية أخرى لـ ابن عباس: (فتفرز لنا الأمم طريقنا، فنمضي غراً محجلين من أثر الوضوء، فتقول الأمم في أرض القيامة: كادت هذه الأمة كلها أن تكون أنبياء!) يقول الحبيب: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان).
الخطاطيف: جمع خطاف: وهو الحديدة المعروفة، والكلاليب: جمع كلوب، والكلوب: بمعنى الخطاف.
والسعدان: نبت له شوكة عظيمة كالخطاف، صلبة قوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه الكلاليب والخطاطيف التي تخطف الناس من على الصراط لتلقي بهم في جهنم والعياذ بالله بشوك السعدان.
ثم قال: (هل تعرفون شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المجازى حتى ينجى).