للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نفخة الفزع]

يأمر الله إسرافيل أن ينفخ النفخة الأولى ألا وهي نفخة الفزع وهذا هو عنصرنا الثاني.

قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:٨٧].

(وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) عرفنا الصور وعرفنا صاحبه الذي سينفخ فيه.

(فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) اختلف أهل العلم فيمن استثنى الله جل جلاله، فقال بعض أهل العلم: إنهم الأنبياء، ومنهم من قال: إنهم الشهداء، والذي أجزم به: أنه لم يرد لنا في ذلك خبر صحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فما سكت الله عنه ورسوله، فلسنا في حاجة إلى أن نبحث عنه.

(فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) ينفخ إسرافيل نفخة فتنفك كل صلات هذا الكون وروابطه! وتتزلزل الأرض كالقنديل المعلق في سقف المسجد! وترتج بأهلها رجَّات عنيفة مزمجرة، فيفزع الناس، وما من أحد يسمع هذه الصيحة إلا وقد رفع ليتاً -أي: رفع صفحة عنقه- وأمال الأخرى يستمع إلى هذه الصيحة التي قد أفزعت كل حي من أهل السماء ومن أهل الأرض! ولم لا؟! تصور معي هذه المشاهد التي تخلع القلب؛ لتقف على حجم الفزع، فالشمس قد ذهب ضياؤها وأظلمت، والكواكب تناثرت وتمزقت هنا وهنالك البحار والأنهار تحولت إلى نار متأججة مشتعلة! والجبال العملاقة دكت في الأرض فتحولت إلى قطع صغيرة متفتتة كالعهن المنفوش، أي: كالصوف الممزق! تصور معي هذه المشاهد؛ لتقف على حجم الفزع الذي ينتاب أهل الأرض: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:١ - ٢].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ (إذا الشمس كورت)، وليقرأ (إذا السماء انفطرت)، وليقرأ (إذا السماء انشقت)).

بعد هذه النفخة يحدث الانقلاب في الكون كله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:١] الشمس التي تضيء لنا الشمس التي تمدنا بالدفء والحرارة والضياء ذهب ضياؤها وأظلمت! وقال ابن عباس: كورت أي: جمعت ووضعت تحت العرش.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم نظر يوماً إلى الشمس فقال لأصحابه: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله جل وعلا).

{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:٢] أظلمت وتناثرت وذهب ضياؤها وتشتت! {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:٣] الجبال العملاقة يدكها الله في الأرض دكاً، فتتحول إلى قطع صغيرة متناثرة كالعهن المنفوش أي: كالصوف المنفوش.

تدبر معي قول الملك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١٠٥ - ١١١].

حتى الجبال؟! نعم، حتى الجبال.

{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:٤] العشار: هي النوق، وهي من أغلى ما يمتلكه العربي في الجزيرة.

إذا سمع الناس نفخة الفزع، وفزع أهل الأرض فإن من يمتلك هذه العشار لا يلتفت إليها، ولم تعد تمثل له أي شيء أو أي قيمة؛ لأنه قد وقع بأهل الأرض ما يشغلهم عن كل زخارف هذه الحياة.

{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:٥] السباع المفترسة والأليفة الوديعة تحشر كلها، يمشي المفترس إلى جوار الوديع لا ينظر إليه، ولا يجري بين يديه، فقد أدركت زلزلة الساعة وفزع القيامة! فترى الوحوش قد نزلت من الجبال إلى السهول والوديان، الكل قد جاء في ذلة وانكسار للواحد الجبار! {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:٦] هذه المياه التي كانت سبباً للحياة يحولها الله إلى حمم إلى كتل نارية محرقة، يعود الماء إلى أصله من الأكسجين والهيدروجين، فيتحول الماء إلى نار مشتعلة متأججة.

{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:٧] زوجت أرواح المؤمنين بالحور العين في جنات رب العالمين، أو قرنت الأرواح بالأجساد، أو قرن الكافرون بالشياطين.

{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:٨ - ٩] لماذا قتلت وهي التي لا ذنب لها؟! {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:١٠] فتحت، اقرأ كتابك، هل يقول: أنا لا أستطيع القراءة، أنا كنت أمياً؟! لا، اليوم ستقرأ بأمر الملك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤].

{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:١١] أي: طويت كطي السجل للكتب، يطوي الملك جل جلاله السماء والأرض.

{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:١٢] تأججت واشتعلت نيرانها، وجاءت تتلمظ وهي تقول: هل من مزيد؟! هل من مزيد؟! {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:١٣] قربت للمتقين قربت للموحدين قربت للمؤمنين! {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:١٤] علم كل إنسان حقيقة أقواله وحقيقة أعماله، سترى كل شيء قدمت، وكل كلمة تكلمت، وكل ما فعلت قد سطر عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.

وتدبر معي بعد ذلك: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:١ - ٥].

وتدبر معي بعد ذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:١ - ٢] أي: حكم عليها أن تأذن وتخضع لأمر الملك {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:٣ - ٤] تخلت عن حملها الثقيل، فأخرجت كل ما في جوفها، وكل ما في بطنها من بني الإنس من يوم أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>