للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حديث: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس)]

تدبر معي قول الصادق المصدوق، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً والشمس تغرب: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا)، لا تتعجل فكل شيء في هذا الكون يسجد لله، قال جل في علاه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:١٨] فكل شيء في الكون يسجد لرب الأرض والسماء، إلا كفرة الإنس والجن.

انظر إلى الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه؛ لتتعرف على وحدانية الله وعظمة الخالق جل في علاه، انظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض واتساعها، وإلى الجبال وأثقالها، وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها، وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن السجود لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من غفل من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الثمرة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة وانظر لتلك الشمس التي جذوتها مستعرة فيها ضياء وبها حرارة منتشرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الشررة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة الشمس والبدر من آيات قدرته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف له حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قال الصحابة: الله ورسوله أعلم.

فقال الصادق المصدوق: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله عز وجل، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها -أي: من المشرق- يقول المصطفى: فلا تزال كذلك، لا يستنكر الناس منها شيئاً).

الشمس تشرق كل صباح من المشرق، وتغرب كل يوم في المغرب، لا يستنكر الناس من أمرها ولا من شأنها شيئاً، فلا تزال كذلك حتى تجري ثم تستقر في مكانها تحت العرش، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي وأصبحي طالعة من مغربك، فتصبح الشمس طالعة من المغرب، انتهى نظامها المعتاد، انتهت مدة حياة هذا الكون، ستبدل الأرض غير الأرض، وستبدل السماوات ليبرز الجميع للوقوف بين يدي الملك جل جلاله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨].

أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح الشمس طالعة من المغرب انظر إلى هذا العجب!! ووضحت هذا المعنى رواية ابن مردويه بسند حسن بشواهده من حديث عبد الله بن أبي أوفى أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالٍ من لياليكم) وفي الوقت المحدد يضغط المنبه على ساعة الوقت لصلاة الفجر، فتستيقظ فتنظر إلى ساعة الوقت فترى الليل ما زال مخيماً! لعل الساعة قد خانت! ثم تستيقظ فترى الليل ما زال مخيماً بظلامه! ثم تستيقظ فترى الليل ما زال مخيماً بظلامه! فتتعجب! طال وقت النوم! (ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون- يعرفها القائمون بالليل لله رب العالمين، انظر إلى فضل قيام الليل، حتى في أحلك الأزمات -يقوم أحدهم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام، فبينما هم كذلك صاح الناس بعضهم في بعض، فيفزعون إلى المساجد، فبينما هم كذلك إذ بهم يرون الشمس قد طلعت من مغربها).

الله أكبر! ما الذي يترتب على هذه الآية العظيمة؟! تدبر هذا الكلام جيداً! الذي يترتب على ذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: -كما في رواية أبي ذر التي ذكرتها آنفاً-: (أتدرون متى ذاكم؟!) أي: أتدرون متى تطلع الشمس من مغربها؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذاك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]).

أغلق باب التوبة بطلوع الشمس من مغربها، إذا عاد الكافر إلى الله لا يقبل الله منه الإيمان، انتهى الأوان، إذا تاب العاصي إلى الله لا يقبل الله منه التوبة، ذكرت في الدنيا فما تذكرت! وعظت في الدنيا فما اتعظت! ذكرناك بالقرآن وذكرناك بحديث النبي عليه الصلاة والسلام فأبيت إلا الإنكار، وأبيت إلا العناد والإصرار، وتماديت في المعاصي والضلال والطغيان، وإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق عليك باب التوبة يا مسكين! قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا طلعت الشمس من مغربها ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون، ويومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدخان)، فإذا طلعت الشمس من المغرب، وخرجت الدابة من الأرض، وخرج الدخان؛ إن تاب الكافر إلى الله لا يقبل الله منه، وإن تاب العاصي إلى الله لا يقبل الله منه، فأذكر نفسي وأذكرك الآن -أيها الحبيب- بالمبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل قبل أن يغلق الله باب التوبة علينا.

المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول -والحديث رواه أحمد بسند صحيح-: (لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل).

أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها الغافل! أيها المضيع للتوحيد! أيها المضيع للصلاة! أيها المضيع للزكاة! أيها العاق لوالديه! أيها المنصرف عن الله! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).

إذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة، فهنيئاً لمن طلعت الشمس عليه من مغربها وهو مستقيم على طاعة الله، اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والاستقامة، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك يا رب العالمين.

قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].

<<  <  ج: ص:  >  >>