[عن عمره فيما أفناه؟]
أحبتي في الله: أولاً: السؤال عن العمر.
أيها الأحبة الكرام! لا شك أن الله عز وجل سيسأل العبد في ساحة الحساب عن كل ما قدم في هذه الحياة، قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].
وقال جل وعلا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣]، فكل صغيرة وكبيرة سطرت عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها؟! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها؟! {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن الله سبحانه سيسأل العبد -بعد سؤاله عن الصلاة- عن أربع، كما في الحديث الصحيح الذى رواه الترمذي والطبراني في معجمه الكبير والصغير، والخطيب في التاريخ، وصحح الحديث شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -أسألك بالله! أن تتدبرها؛ لتسألها نفسك الآن قبل أن تسأل بين يدي الملك جل وعلا- عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟).
أولاً: السؤال عن العمر.
إخوتاه! العمر هو البضاعة ورأس المال، فمن ضاعت بضاعته، وانتهى رأس ماله دون أن يحقق الربح، فهو من الخاسرين.
هل حسبت أن هذا العمر، وأن هذه الأيام، وأن هذه السنوات -التى تمضي ونحن لا نشعر بها- لن يسألنا عنها؟ لا والله، تدبر قول رب الأرض والسماوات وهو يقول سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٣٦ - ٤٠].
أليس ذلك بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه؛ للسؤال عما قدموه وعما فعلوه؟! للسؤال عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير؟! أيها المسلم! الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، وتسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيل بعد جيل، وبعدها سيقف الجميع بين يدي الملك الجليل.
ستسأل عن كل ساعة، ستسأل عن كل يوم، ستسأل عن كل أسبوع، ستسأل عن كل سنة، ستسأل عن عمرك كله فيما أفنيت هذا العمر؟ قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: يا ابن آدم! إنما أنت أيام مجموعة، فإن مضى يوم مضى بعضك، وإن مضى بعضك مضى كلك.
وكان يقول أيضاً: " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادي بلسان الحال ويقول: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله ما ندمت على شيء كندمي على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي).
العمر هو البضاعة الحقيقية، وهو رأس المال، ووالله ما منحنا هذه البضاعة الكريمة للهو وللعب، وللملذات، وللشهوات، والله ما للعب خلقنا، بل خلقنا الله لغاية كريمة وعظيمة.
قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].
هذه هي الغاية التي خلق الله لها الخلق، ما خلقنا الله لنضيع الأعمار أمام المسلسلات والمباريات، وأمام الأفلام، وأمام هذا العبث واللهو الذي تحول في حياة هذه الأمة المسكينة إلى جد.
ما خلقنا الله لذلك.
ومن أجمل ما قيل في قول الله تعالى فى حق نبي الله يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:١٢]، قال جمهور المفسرين: أي: آتاه الله الحكمة وهو طفل صغير، فذهب إليه بعض أترابه يوماً من الأيام قبل أن يوحي الله إليه بالنبوة، فقالوا: يا يحيى! هيا بنا لنلعب! فقال يحيى -وهو الطفل الصغير-: والله ما للعب خلقنا! وصدق والله، فإن الله ما خلقنا للهو والعبث، وما خلقنا لنضيع الأعمار أمام اللهو، وأمام المسلسلات والمباريات والأفلام، فإن جل الأمة الآن يقضي جل الليل بل وجل العمر أمام التلفاز، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يا من يمضي عمرك وأنت لا تدري اعلم بأنك ستسأل عن هذه الساعات وستسأل عن هذا العمر وتذكر يا من يمضي عمرك وأنت في غفلة! أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، تذكر وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر، كما في صحيح البخاري أنه أخذ بمنكبي عبد الله بن عمر وقال له: (يا عبد الله! كن فى الدنيا كأنك غريب) -ما أحوجنا ورب الكعبة لهذه الكلمات! إننا نعيش عصراً طغى فيه حب الشهوات، وحب الملذات، وحب الدنيا، فإن كثيراً من الناس الآن يذكر بقول الله فلا يتذكر، ويذكر بحديث رسول الله فلا يتحرك قلبه، وكأن القلوب قد تحولت إلى حجارة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤].
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١].
اللهم ارزقنا التفكر في آلائك ونعمك، برحمتك يا أرحم الراحمين! تذكر وصية النبي الكريم لـ ابن عمر: (يا ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
الغريب وإن طالت غربته حتماً سيرجع إلى وطنه، وعابر السبيل وإن طال سفره حتماً سيعود إلى بلده وأهله، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
أعلم أننا جميعاً نحفظ هذا، لكن قل من يتدبر هذا، وقل من ينام كل ليلة على فراشه، وهو يقول لأهله: أستودعكم الله بلسان الحال والمقال واليقين، وهو يعلم يقيناً أنه ربما لا يرى أهله وأولاده في الصباح.
(إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).