[مجيء الرب جل جلاله]
أولاً: مجيء الرب جل جلاله.
أعيروني قلوبكم وأسماعكم وكيانكم كله، وتدبروا معي هذه الكلمات، هل منكم أحد حضر يوماً في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ يوم يؤتى بالمتهمين ليقفوا وراء هذا القفص الحديدي، وفجأة وقد امتلأت قاعة المحكمة بأهل المتهمين وبالمحامين، ويدخل القضاة ليجلسوا على منصة القضاء، ويصرخ الحاجب: محكمة! فَتَصْمُت الأنفاس، وتكاد القلوب أن تقفز من الصدور، ويبدأ المحامون في المرافعات، والمجادلات والمعاذير وتسمع هيئة القضاء، ويردون، ويترافعون، ويتناقشون، ثم يسدل الستار على هيئة القضاء؛ ليتناقش القضاة في إبرام الحكم وفي النطق به، وفي المرة الثانية يدخل القضاة؛ ليصدروا الحكم في هذه القضية.
أسألك بالله: انظر إلى وجوه الناس في قاعة المحكمة.
العيون تبكي، والقلوب تكاد تقفز من الصدور، والأنفاس متقطعة، والكلام همس، والسؤال تخافت، والكل ينظر بأي شيء سيحكم؟! وما الذي سينطق به القاضي؟! وهو العبد الحقير الفقير إلى الله الملك القدير.
تصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلب، بل تكاد القلوب أن تقفز إلى الحناجر؛ لتقف على حجم الهول، والخلق جميعاً في أرض المحشر -ومن بينهم الأنبياء- يقفون وينظرون إلى السماء، ينظرون مجيء الملك العدل جل جلاله.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١٠٨ - ١١١].
تنشق السماء، وينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الإنس والجن! كما قال ابن عباس في قوله جل وعلا: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:٢٥].
قال: ينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الجن والإنس، فتحيط الملائكة بالخلائق في أرض المحشر، فإذا ما نظرت الخلائق إلى الملائكة قالوا: أفيكم ربنا؟! فتقول الملائكة: كلا، وهو آت، أي: إتياناً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، فصفة المجيء صفة لله لا يجوز لمسلم أن يعطلها، أو أن يمثلها، أو أن يكيفها، أو أن يشبهها.
قال الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:٢١٠]، ويقول الحق سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٢ - ٢٦].
اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، يا أرحم الراحمين! ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)) يأتي الحق جل وعلا إتياناً يليق بكماله وجلاله.
فلا تعطل صفة المجيء ولا تكيف صفة المجيء، ولا تشبه الله بأحد من خلقه، جل ربنا عن الشبيه والنظير وعن المثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا ولد له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤]، وقال جل جلاله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال.
فلا العرش يحمله ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال جل جلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].
وقال جل جلاله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠].
وقال جل جلاله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤].
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:٢١٠].
ثم يتنزل أهل السماء الثانية من الملائكة بضعف من في الأرض من ملائكة السماء الأولى والجن والإنس، فيحيط أهل السماء الثانية بأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن.
وهكذا أهل السماء الثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة على قدر ذلك من التضعيف! ثم يتنزل حملة عرش الملك جل وعلا وهم يحملون العرش ويسبحون الله سبحانه، ويقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من كتب الموت على الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس قدوس قدوس، رب الملائكة والروح.
اسمع لربك جل وعلا وهو يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٣ - ١٨].
ويضع الحق جل جلاله عرشه حيث شاء من أرضه، ثم ينادي الملك فيقول: يا معشر الجن والإنس! لقد أنصت إليكم منذ خلقتكم، أسمع قولكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا اليوم إليَّ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم يقول الحق جل جلاله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٠ - ٦٥].
لقد أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وجعل بعد خاتم الرسل العلماء والدعاة ممن يسيرون على دربه، ويرفعون رايته، ويحملون منهجه، يوم يقولون للناس: لقد تلي عليكم القرآن، وذكرناكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنكم أعرضتم عن منهج الله ومنهج رسوله، فمن وجد غير الخير فلا يلومن إلا نفسه.