للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أول أمة سيحاسبها الله تعالى]

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.

وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات بالتوبة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، ونحن اليوم على موعد بإذن الله مع اللقاء الرابع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة.

وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع مشهد الحساب الرهيب المهيب! فلقد ذكرنا أن العباد في أرض المحشر يقفون صفوفاً صفوفاً، ينتظر كل واحد منهم أن ينادى عليه للعرض على الله جل وعلا، ليحاسب الله تبارك وتعالى عباده وفق قواعد العدل التي ذكرت في اللقاء الماضي، وهي: ١ - {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:٣٨].

٢ - العدل التام الذى لا يشوبه الظلم.

٣ - إعذار الله لخلقه.

٤ - إقامة الشهود.

٥ - مضاعفة الحسنات.

٦ - تبديل السيئات حسنات.

وبعدها يبدأ الحساب، فيا ترى من هي أول أمة سيحاسبها الله؟! ومن هم أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة؟ وما هو أول ما يحاسب عليه العبد؟ والجواب على هذه الأسئلة هو موضوع لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أولاً: من هي أول أمة سيحاسبها الله جل علاه؟ أيها الأحبة الكرام! إن ذل القيام بين يدي الله في أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرءوس بمقدار ميل فقط! تكاد الرءوس أن تغلي من حرارتها، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة في صعيد واحد! يكاد الزحام وحده أن يخنق الأنفاس، وجهنم قد أتي بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، إذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا، فتجثو جميع الأمم على الركب قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨].

في هذه اللحظات من بين سبعين أمة تقف كلها في أرض المحشر؛ ينادي الله جل وعلا أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرحمها من ذل القيام بين يديه في أرض المحشر، بل وليكرمها على جميع الأمم، حينما ينادى عليها لتشهد على هذه الأمم كلها، ففي الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: (نحن آخِرُ الأمم وأول الأمم حساباً يوم القيامة، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون).

فأمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول أمة سينادى عليها يوم القيامة للحساب؛ ليرحمها الله من ذل القيام في أرض المحشر في هذا الموقف العصيب.

وفي الحديث الذى رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي ورواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا).

فأمة النبي هي أشرف وأطهر وأكرم أمة على الله سبحانه، ولم لا والرجل وحده في أمة النبي المصطفى قد يزن أمة بأسرها؟! ففي هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع أصحاب الحبيب النبي، في هذه الأمة: مسلم والبخاري، في هذه الأمة: أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي، والسائرون من بعدهم على هذا الدرب المنير الزكي، من أهل الحلم والعلم والفضل الندي.

روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الصغير والأوسط، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله لعيسى بن مريم: يا عيسى! إني سأبعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يارب! كيف هذا، ولا حلم ولا علم؟! فقال الله جل وعلا: أعطيهم من حلمي وعلمي).

فأمة النبي تتجلى كرامتها يوم القيامة بين يدي الرب العلي، حينما ينادى عليها من بين سبعين أمة أين أمة محمد فلتتقدم، لماذا؟! ولتشهد على جميع الأمم! لتشهد للأنبياء والمرسلين.

ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير! وما أتانا من أحد! فيقول الله جل وعلا: من يشهد لك يا نوح، فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بأنه بلغ قومه، وأشهد عليكم)، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣].

أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أمة مكرمة، فمن أثنت الأمة عليه خيراً نجا ووجبت له الجنة، ومن أثنت أمة الحبيب عليه شراً هلك ووجبت له النار.

ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه بجنازة فَأُثني عليها خيراً فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، ثم مُرّ عليه بجنازة أخرى، فأثني عليها شراً، فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، فقال عمر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! مر عليك بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر عليك بجنازة أخرى فأثني عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، فما وجبت؟ فقال المصطفى: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة , ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، فأنتم شهداء الله في الأرض).

ولقد وعد الله نبيه أن يعطيه في أمته حتى يرضى، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً قول الله في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:٣٦]، وتلا قول الله في عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]، ثم رفع النبي يديه إلى السماء وبكى، فقال الله جل وعلا لجبريل عليه السلام: يا جبريل سل محمداً ما الذي يبكيه؟ وهو أعلم، فنزل جبريل للمصطفى فقال: ما الذي يبكيك يا رسول الله؟! قال: أمتي أمتي يا جبريل! فصعد إلى الله، وأخبر الحق تبارك وتعالى -وهو أعلم- فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).

فأمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة ميمونة مباركة.

ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثُّريَّا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠]، ولكن أرجو أن يعلم الإخوة جميعاً أن هذه الخيرية والمكانة لا تكون إلا للموحدين الصادقين من أبناء أمة سيد النبيين، وإلا فإن من أبناء هذه الأمة من ستسعر به النار، ومن يحال بينه وبين شفاعة النبي المختار، فاقدر لهذه النعمة قدرها، واعرف لهذا الشرف حقه، وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أنه سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) إخلاص التوحيد لله، تجريد التوحيد لله، فهل صرفت العبادة كاملة لمن يستحق العبادة وهو الله لا شريك له؟ ومن الأمة من يطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ لأنه انحرف عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا سابقكم على الحوض- فمن مر علي شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن علي الحوض أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم من أمتي! إنهم من أمتي! فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقا لمن غير بعدي).

<<  <  ج: ص:  >  >>