الجرعة الثانية من جرعات دواء الرياء: أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة.
عاقبة الرياء في الآخرة أنه لا عمل له عند الله جل وعلا! مهما صلى المرائي، ومهما أنفق المرائي، فسيأتي يوم القيامة لا يجد له ركعة، ولا يجد له جنيهاًً واحداً، ولا يجد له عملاً واحداً، لماذا؟ لأنه ما ابتغى بعمله وجه الله، الله جعل عمله كله هباءً منثوراً، اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! فعاقبة الرياء في الآخرة الخسران.
وفي الدنيا: المرائي يريد أن يرضي الناس بعمله، يريد أن ينال المكانة والمنزلة في قلوب الناس، فيظهر عملاً وقولاً وسمتاً وسلوكاً، والله جل وعلا يعلم من قلبه أنه يبطن خلاف ذلك، فإن كان الرياء في أصل الدين -أي: يبطن الكفر ويظهر الإيمان- فهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في جهنم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة:٢٠٤ - ٢٠٦]، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:١].
فإذا كان الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر- فهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، أما إن استقر في قلبه أصل الدين والإيمان، وهو يرائي الناس بالأعمال فقط، فهذا هو الشرك الأصغر، ويخشى على هذا أن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، فالمرائي لا جزاء له في الآخرة، وفي الدنيا هو يرائي الناس؛ لأنه يريد أن يرضي الناس، ومن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، لو رضي كل الناس عن أحد، لرضوا عن الحبيب المصطفى.
يأتي إليَّ كثير من إخواني وقد تشنج وانفعل، ويقول: سمعت فلاناً من الناس يتكلم فيك بسوء، إنه يبغضك، فأقول: هذه علامة خير، هذه علامة صحة، ثم أقول: يا أخي! أتريد أن يحب كل الناس أحداً بعينه؟! مستحيل! فلو كان الأمر كذلك لتعلقت كل القلوب بحبيب القلوب محمد بن عبد الله، كيف وقد عادوه؟! كيف وقد آذوه؟! كيف وقد طردوه؟! كيف وقد حاربوه؟! كيف وقد وضعوا النجاسة على ظهره؟! كيف وقد وضعوا التراب على رأسه؟! كيف وقد خنقوه حتى كادت أنفاسه أن تخرج بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟! فمن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، بل والله لو رضي الناس عن أحد لرضي الناس عن خالقهم جل وعلا، كل الناس لم يرضوا عن الخالق، الله خلقهم ورزقهم، وأنعم عليهم، ومنهم من كفر بالله، ومن الناس من سب الله، ومن الناس من شتم الله، فقد نسبوا لله الولد والزوجة وهو الواحد الأحد، ومن الناس من اتهم الله بالفقر كما قال اليهود الأغبياء:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}[آل عمران:١٨١]، ومن الناس من اتهم الله بالبخل كما قالت اليهود الأنجاس:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة:٦٤].
فيا من تعمل العمل وتظن أنك سترضي الناس! اعلم بأن الناس لم يرضوا عن أحد، لن يستطيع مخلوق أن يرضي كل الناس، بل قد لا يستطيع الوالد في بيته أن يرضي كل أولاده! وقد لا يستطيع الشيخ في مجلس علمه أن يرضي كل طلابه، هذه قاعدة من جهلها فهو جاهل، فمن عمل العمل يريد رضا الناس فهو غبي جاهل؛ لأن الناس لن يرضوا عن أحد على الإطلاق.
إذاً: فعلق قلبك بالله، وابتغ بقولك وعملك وجه الله، فلو اجتمع أهل الأرض بالثناء عليك فلن يقربك ثناؤهم من الله إن كنت بعيداً عن الله، ولو اجتمع أهل الأرض بالذم فيك فلن يبعدك ذمهم عن الله إن كنت قريباً من الله، فما الذي يضرك؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا يضيرك ذم الناس وأنت محمود عند الله، وقريب من الله؟! فعلق قلبك بالله، واعلم يقيناً بأن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس المؤمنين الصادقين، فإن المنافق لا يحب مؤمناً على ظهر الأرض، المنافق يبغض المؤمن كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم:٩٦](وداً) أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، فإذا رأيت رجلاً يبغض مؤمناً صالحاً فاعلم أن قلبه قلب خبيث مريض بالنفاق والعياذ بالله! فإنه لا يحب المؤمن إلا مؤمن، ولا يبغض المؤمن إلا منافق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وقال: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) قال الخطابي رحمه الله: فالخير يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار، فالمرائي خسران في الدنيا والآخرة؛ فلو علم الإنسان عاقبة الرياء في الدنيا، وعاقبة الرياء في الآخرة، لابتغى بقوله وعمله وجه الله، ولسأل الله في الليل والنهار أن يجعل عمله وقوله كله خالصاً لوجهه، وأن يرزقه الله تبارك وتعالى الإخلاص في السر والعلن.