[وعن جسمه فيما أبلاه]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً يسأل الله جل وعلا العبد عن جسمه فيما أبلاه؟ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦]، سيسأل الفؤاد -القلب- عما وعاه من اعتقاد، هل امتلأ القلب بحب الله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ في الوقت ذاته ببغض الشرك والمشركين والباطل والمبطلين، أم امتلأ بحب الشرك والمشركين والباطل والمبطلين، وببغض الله ورسوله والموحدين؟ سيسأل السمع عن كل ما سمع، سيسأل البصر عن كل ما رأى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦]، فهل يا ترى لا يسأل العبد بين يدى الرب سبحانه إلا عن هذه الجوارح فحسب؟ كلا، بل سيسأل الإنسان عن جسمه كله.
سيشهد هذا الجسم كله بما قدم، وبما صنع، وبما فعل، ستشهد اليد والسمع والبصر والرجل، والجوارح كلها ستشهد، قال الله سبحانه تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥].
وقال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:١٩ - ٢١].
فسوف تسأل عن هذا البدن، وعن هذا الجسم فيما أبليته، هل أبليت جسمك فى عمل الدنيا والآخرة، أم في عمل الدنيا فحسب؟ فلا حرج أن يبلي الإنسان جسمه لعمل الدنيا ولعمل الآخرة, والخطأ والحرج أن يفني الإنسان جسمه كله وحياته كلها في عمل الدنيا؛ ليضيع بذلك حق الله وعمل الآخرة، تاجر، وعَمِّر، وابنِ، واجمع المال من الحلال، لكن لا تنسى حق الكبير المتعال، لا تنسى الآخرة.
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، فلا حرج أن نجمع بين الأمرين.
قال المصطفى: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي).
فاعمل للدنيا وللآخرة، لكن لا تضيع عمرك كله للدنيا وتنسى الآخرة، فهل أبليت جسمك في عمل الدنيا والآخرة، أم في عمل الدنيا ونسيت عمل الآخرة؟! ستتمنى يوم القيامة الرجعة والعودة إلى الدنيا لا لتعمل للدنيا مرة أخرى، بل لتعمل للآخرة: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٧ - ٩٩] أي: إلى الدنيا {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:١٠٠]، فاعمل الآن للدنيا وللآخرة قبل أن تتمنى العودة والرجعة، فيقال لك: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:١٠٠].
واعلم بأنه أنك لو أبليت جسمك كله ليلاً ونهاراً من أجل الدنيا ونسيت عمل الآخرة، والله لن تحصل من الدنيا إلا ما قدره الرزاق لك، مهما تحركت يمنة ويسرة لن تحصل من الرزق إلا ما قدره الرزاق لك، تدبر هذا الحديث الجميل الذي رواه الترمذي وغيره، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) أليس ربنا هو القائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣]؟! (من كانت الآخرة همه) هو يعمل للدنيا ولكنه لا ينسى الآخرة، فالآخرة هي الهم، فإن عمل للدنيا فمن أجل أن يتقوى بعمل الدنيا وبحلال الدنيا وبطعام الدنيا وبزينة الدنيا للآخرة، لأن الآخرة هي الهم الذي يعيش له، (من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) اسمع (ومن كانت الدنيا همه) لا يعيش إلا لها، ولا يأكل إلا لها، ولا ينام إلا لها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يبذل العقل والفكر والجهد والوقت إلا للدنيا، فإن ذكر بالآخرة استهزأ وسخر بمن ذكره، هذا يقول فيه المصطفى: (من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وشتت الله عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر الله له) ففيم أبليت الجسم؟ في عمل الدنيا والآخرة أم في عمل الدنيا؟ وهل أبليت الجسم في طاعة الله أم في معصية الله؟ سل نفسك هذا السؤال الآن، ما مضى من عمرك هل سخرت الجسم فيه لطاعة الله، أم سخرت الجسم فيه لمعصية الله؟ هل أعطاك الله هذا الجسم لتعصي الله به أم لتطيع الله به؟ والمعصية سبب لكل شقاء، وسبب لكل ضنك وبلاء في الدنيا والآخرة، والطاعة سبب لكل فلاح وفوز وخير في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: (إن للطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، وضعفاً في البدن، وبغضاً في قلوب الخلق).
وذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم طيب الله ثراه فقال له: يا إبراهيم! ساعدني على البعد عن معصية الله، كيف أترك معصية الله جل وعلا؟ فقال له إبراهيم: تذكر خمساً، فإن عملت بها لن تقع في معصية الله، وإن زلت قدمك سرعان ما ستتوب إلى الله جل وعلا.
قال هاتها يا إبراهيم: قال إبراهيم: إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فلا تأكل من رزق الله.
قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟ قال: فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت تأكل رزقه؟ هل تعصي الله برزقه عليك؟ هل تعصي الله بنعمه عليك؟ تعصي الله بنعمة الصحة وهي رزق! تعصي الله بالزوجة وهي رزق! تعصي الله بالأولاد وهم رزق! تعصي الله بالعافية وهي رزق! هل يجدر بك أن تعصي الله وأنت تأكل وتتنعم برزق الله؟ قال يرحمك الله يا إبراهيم: هات الثانية.
قال إبراهيم: وأما الثانية: إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان ليس في ملك الله، ابحث عن أرض ليست ملكاً لله واعص الله عليها.
قال: كيف ذلك يا إبراهيم والملك ملكه، والأرض ملكه، والسماء ملكه؟! قال: ألا تستحي أن تعصي الملك في ملكه؟ قال يرحمك الله: هات الثالثة.
قال: أما الثالثة إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه.
قال: يرحمك الله، كيف والله يسمع ويرى؟! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧] معهم في أي مكان كانوا بسمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وإحاطته.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب إذا أردت أن تعصي الله -عبد الله- فنقب عن مكان أمين لا يراك الله فيه.
قال: كيف ذلك يا إبراهيم والله يسمع ويرى؟ قال: ألا تستحي أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟! قال: يرحمك الله هات الرابعة.
قال: أما الرابعة: إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا وجاءك ملك الموت فقل له: أجلني ساعة حتى أتوب إلى الله وأدخل في طاعته.
قال: كيف ذلك يا إبراهيم والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤]؟ قال: فهل يجدر بك وأنت تعلم ذلك أن تسوف في التوبة وفي عمل الطاعات؟! قال: يرحمك الله هات الخامسة.
قال: أما الخامسة: إذا جاءك زبانية جهنم لتأخذك إلى جهنم فإياك أن تذهب معهم.
فبكى الرجل وعاهد الله عز وجل على الطاعة.
أيها المسلم! فكر في هذه الخمس جيداً قبل أن تعصي الله، وإن زلت قدمك جدد الأوبة والتوبة إلى الله، واعلم بأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وما من ليلة إلا والملك يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وينادي الحق سبحانه ويقول: أنا الملك! أنا الملك! من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، فهيا عد إلى الله وتب إليه، واستعد بالجواب الآن لهذه الأسئلة، واعلم بأنه لن تزول قدمك حتى تسأل عن هذا كله الذي أمرنا وذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأل الله جل وعلا أن يسترني وإياكم فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا