للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فضل العلم والعلماء]

أيها الأحبة الكرام! العلم أغلى ما يطلب في هذه الحياة بلا شك، فلا سبيل إلى معرفة الله، ولا سبيل إلى الوصول إلى رضوان الله في الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعي، إلا أن تتعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، العلم يبذل له المال، العلم يبذل له العمر، العلم يبذل له الوقت كله، فإن أغلى ما يضحى له هو العلم، ولم يأمر الله نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، كما قال تعالى آمراً نبيه المصطفى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤].

ورفع الله قدر أهل العلم فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

ثم قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١].

وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨].

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً -وفي لفظ (رؤساء جهالاً) - فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا).

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وحسنه شيخنا الألباني رحمه الله بشواهده من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

من آتاه الله العلم فقد أوتي الحظ الوافر، وأوتي الخير كله، فإن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، العلم هو الذي ينفعك بعد موتك، يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، وقال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وصحيح البخاري-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة رددناها مراراً وتكراراً، لكن هذا العلم إن لم يحرك قلبك وجوارحك للعمل، ولخشية الله، ولتقوى الله، فلا خير فيه ولا بركة له، ما ثمرة العلم إن لم يورثك العمل؟! ما ثمرة العلم إن لم يقربك من الله سبحانه؟! فما ثمرة هذه المحاضرات؟! ما ثمرة هذه الخطب التي تخلع القلوب، إن لم تعبد هذه الخطب وهذه المحاضرات وهذه الكلمات وهذا العلم لرب الأرض والسماوات؟! إن لم يورثنا هذا العلم خشية الله، إن لم يورثنا هذا العلم تقوى الله، إن لم يورثنا هذا العلم حب السنة وبغض البدعة، ما ثمرة العلم؟! يقول الشاطبي في كتابه القيم الموافقات: إن كل علم لا يفيد عملاً ليس في الشرع ما يدل على استحسانه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤].

وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار -اللهم حرم أجسادنا على النار- فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى! كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).

لذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع، كما في صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه -والأثر يصح موقوفاً على أبي الدرداء ولا يصح مرفوعاً-: (إنني أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتقول الآمرة: هل ائتمرت؟ وتقول الزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (يا حملة العلم! اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل).

ليس العلم بكثرة الرواية، وليس العلم بكثرة الدراية، ولكن العلم الحقيقي هو الذى يورثك خشية الله، ويورثك العمل، قال: (يا حملة العلم! اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه، وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى الله عز وجل).

إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، لذا قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا".

اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعلم، وقال ابن السماك: كم من مُذَكِّر بالله وهو ناس لله!! وكم من مُخَوِّف من الله وهو جريء على الله!! وكم من مُقَرِّب إلى الله وهو بعيد عن الله!! وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله!! اللهم سلم سلم! كم من تال لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله، لا تجاوز القراءة حنجرته أو ترقوته والعياذ بالله، فسوف تسأل عن علمك ماذا عملت به؟ ماذا عملت فيه؟ هل تعلمت لله؟ هل عملت بالعمل؟ هل علمت للسمعة؟ هل علمت للشهرة؟ هل علمت للرياء؟ ما من محاضرة، وما من خطبة، وما من درس علم، وما من موعظة، وما من شريط، وما من كتاب، ما من كلمة تعرفت عليها -عبد الله- إلا وسيسألك الله عنها، سيقول لك ربك: لقد أقمت عليك الحجة على لسان عبدي فلان، فماذا عملت بهذا العلم؟ والله إن الواقع لأليم، والله إن الواقع لمرير، فإننا نرى كماً هائلاً من المحاضرات والدروس، ونرى كماً هائلاً من المراجع والمجلدات والكتب، ومع ذلك نرى بوناً شاسعاً، وفرقاً كبيراً بين المنهج النظري وبين الواقع العملي، أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، فإن هذه الفجوة تبذر بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢ - ٣]، لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به.

<<  <  ج: ص:  >  >>