[رحلة ذي القرنين الثالثة]
وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا: قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف:٩٣] بين جبلين عظيمين.
{وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:٩٣].
لا يعرفون لغة ذي القرنين، أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا لأشد الهجمات، وأعنف الضربات على يد يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل، توسلوا إليه، وانطلقوا وقوفاً بين يديه، وقالوا: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:٩٤].
هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد، على أن تبني لنا سداً منيعاً يحمينا من يأجوج ومأجوج؟ فرد عليهم بزهد وورع وقال: لا حاجة لي في أموالكم {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:٩٥].
لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغناني به عن مالكم، ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم، وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم: ولكن! {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:٩٥] أي: قال بلغة العصر: أما عن التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد، ولإقامة هذا المشروع، فسنتكفل بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال؛ يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل، فأعينوني بقوة من أنفسكم أجعل بينكم وبينهم ردماً.
وأمر ذو القرنين -المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون- بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع، فقال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:٩٦]، أي: اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة.
فانطلق هؤلاء وجمعوا قطع الحديد الضخمة، وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد وساوت قمة الجبلين قال: انفخوا تحت هذه القطع النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد، لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، أشعل النيران تحت هذا الحديد بين السدين حتى ذاب الحديد وانصهر، وكان يريد بذلك أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها!! ثم ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر.
فلما انصهر النحاس، أمرهم بصب النحاس على الحديد، فتخلل النحاس مع الحديد، فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً؛ ليزداد صلابة وقوة، فلا يستطيع قوم يأجوج ومأجوج أن يتسلقوه أو أن ينقبوه.
وبذلك يكون قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس، واستطاع أن يساوي بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس؛ وبعمله هذا تتبين لنا سمات القيادة الفذة، وسمات القيادة الناجحة، التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط، والتي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات؛ لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.