[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
اللهم صلَّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام! هذه صورة مصغرة -على قدر جهلي- أقدمها لحضراتكم عن الحساب.
ولك أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد، الذي يكاد أن يخلع القلوب، هذا إن كنا ممن يحمل في الصدور قلوباً! فإنه لا يتأثر بموعظة، ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧].
وكم من الناس الآن من يتحرك في هذه الدنيا وهو لا يحمل قلباً، لقد مات قلبه منذ زمن، وكفن منذ أمد! يسمع القرآن يتلى ولا حياة لمن تنادي! يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فربما يسخر ويهزأ بمذكره! فيا أيها الأخ الكريم! حاسب نفسك الآن قبل أن تحاسب بين يدي الجبار.
قال عمر -والأثر رواه الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح-: (أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).
حاسب نفسك الآن أخي الحبيب! واعلم بأن النفس أمارة بالسوء.
ولقد وصف الله النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهي: المطمئنة، واللَّوامة، والأمَّارة بالسوء.
المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى رسولاً.
المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده.
هي التي اطمأنت إلى ذكر الله وعبوديته.
هي التي تشتاق دوماً للقاء الله سبحانه.
واللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير وعلى الشر.
تلوم صاحبها على الخير، لماذا لم تكثر منه؟! وتلوم صاحبها على الشر، لماذا وقعت فيه؟! لماذا تسوف التوبة؟! لماذا تؤخر الصلاة عن بيوت الله؟! إلى متى وأنت على هذا الضلال وهذه البدع؟ تلوم صاحبها على الخير، وتلوم صاحبها على الشر.
أما النفس الأمارة: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى طريق الغواية من طريق النعيم إلى طريق الجحيم من طريق السُّنة إلى طريق البدعة من طريق الحلال إلى طريق الحرام.
قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:٥٣].
فهذه النفس إن لم تفطمها بطاعة الله شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل، فإن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، وكذلك النفس إن فطمتها عن معصية الله وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت.
فإن زلت نفسك لبشريتك وضعفك فلست ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فسرعان ما يدفع إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة، والعودة إلى الله جل جلاله، وأنت على كل حال من هذه الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
النفس أمارة، فحاسب نفسك الآن أيها الحبيب! قبل كل عمل، وبعد كل عمل، لماذا أتيت؟! لماذا سأتكلم؟! لماذا أسكت؟! لماذا أنفقت؟! لماذا أمسكت؟! لماذا أحببت؟! لماذا أبغضت؟! لماذا خرجت؟! لماذا دخلت؟! وبعد الإخلاص في العمل، هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى؟! هل اتبعت رسول الله أم أنا ضال مبتدع؟! فالسؤال الأول عن الإخلاص، والسؤال الثاني عن المتابعة، إذ لا يقبل الله أي عمل إلا بهذين الشرطين، أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، وأن يكون على هدي الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: إن دين الله الذي هو الإسلام مبني على أصلين: الأول: أن يعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله.
فحاسب نفسك قبل كل عمل، وبعد كل عمل، وحاسب نفسك على التقصير، يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! يا نفس! إلى متى هذا الانحراف عن طرق الله جل وعلا؟! إلى متى تأكلين الربا؟! إلى متى تأكلين الحرام؟! إلى متى تأكلين مال اليتامى؟! إلى متى وإلى متى تتركين الجماعة؟! إلى متى تجلسين على المقاهي والشوارع والطرقات، وتسمعين نداء رب الأرض والسماوات: حي على الصلاة حي على الفلاح، وأنت قابعة على معصيتك؟! إن كنت تعتقدين أن الله لا يراكِ؛ فما أعظم كفرك بالله! وإن كنت تعلمين أنه يراك وأنت لازلتِ مصرة على المعصية؛ فما أشد وقاحتك، وأقل حيائك من الله جل وعلا! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة الإسلام؟! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة بعثة سيد الأنام؟! يا نفس اتق الله! وتوبي إلى الله وعودي إلى الله فحاسب نفسك أيها المسلم! محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، وحاسبي نفسك أيتها المسلمة! محاسبة الشريك الشحيح، قال ميمون بن مهران: لا يبلغ العبد درجة التقوى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.
إياك أن تغتر بطاعة! إياك أن تغتر بعلم! بل كن دائماً على وَجَل، فإنما العبرة بالخواتيم.
أسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة.
هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢] ما معناها يا أماه؟ فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد: فقوم ساروا على دربه، وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك! عائشة! لا تغتر بنسبها، فلم تقل: إنني زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد بشرها المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومع ذلك فإنها لا تغتر، بل تعرف قدر النفس، وخطر النفس، ولؤم النفس.
وهذا فاروق الأمة عمر ينام على فراش الموت، وما أدراكم ما عمر؟! تعجز العبارات عن وصف عمر الفاروق، ينام على فراش الموت بعدما طعن، فيدخل عليه ابن عباس فيثني عليه الخير كله، فيقول عمر: (والله إن المغرور من غررتموه، وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا ليّ ولا عليّ، والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه).
وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال له رسوله: (والله إني لأحبك يا معاذ!) لما نام على فراش الموت بعد ما أصيب بطاعون الشام، قال لأصحابه: (انظروا هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار).
وهذا سفيان الثوري إمام الورع والحديث، ينام على فراش الموت، فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين! فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! ونحن جميعاً يقول كل واحد منا: أتظن أن مثلي لا يدخل الجنة؟! فيا أيها المسلم! لا تغتر بطاعة، ولا تغتر بعلم ولا تغتر بعمل، وكن دائماً على وجل كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي غفر له من تقدم من ذنبه، فحاسب نفسك بعد كل عمل، وحاسب نفسك بعد كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير وعلى كل تفريط، إلى متى تسمع عن الله؟! وإلى متى تسمع عن رسول الله وأنت مفرط ومضيع؟! إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره هو الموت.
قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: يا أبا حازم! مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟! فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان: فما لنا عند الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله؛ لتعلم مالك عند الله.
فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال أبو حازم: عند قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤].
أين أنت؟! فقال سليمان: فأين رحمة الله؟! فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦].
قال: فكيف القدوم على الله غداً؟! قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه! أسأل الله أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخرة.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجةً هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وإن أردت بالناس فتنة ف