وأثني هذه المقدمة بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فتدبره جيداً -أيها الحبيب- وقف عليه وعض عليه بالنواجذ، يقول ابن القيم: إن الله تعالى قد جعل الدور ثلاثاً، وهي دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وجعل الله لكل دار أحكاماً تختص بها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً.
قمة الدقة، ثم قال ابن القيم: واعلم بأن سعة القبر وضيقه ونوره وناره ليس من جنس المعهود للناس في عالم الدنيا.
تدبر هذا الكلام جيداً، ثم ضرب لنا مثلاً عقلياً رائعاً دقيقاً فقال: انظر إلى الرجلين النائمين في فراش واحد، أحدهما يرى في نومه أنه في نعيم، بل وقد يستيقظ وأثر النعيم على وجهه، ويقص عليك ما كان فيه من النعيم، قد يقول لك: الحمد لله، لقد رأيتني الليلة وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمت النبي، ورأيت النبي، ورد علي النبي، وقال لي النبي ومن رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً، قمة النعيم وقمة اللذة والفرح والسرور، ويستيقظ من نومه وهو يقص عليك هذا، وأخوه إلى جواره في فراش واحد قد يكون في عذاب، ويستيقظ وعليه أثر العذاب، ويستيقظ من نومه ويقص عليك ويقول: كابوس كاد أن يخنق أنفاسي -أعوذ بالله-.
تدبر أيها المسلم.
الرجلان في فراش واحد، هذا روحه كانت في النعيم، وهذا روحه كانت في العذاب، مع أن أحدهما لا يعلم عن الآخر شيئاً.
وهذا في أمر الدنيا، فكيف بأمر البرزخ الذي لا يعلمه إلا الملك؟!! تدبر هذا كله، إنها مقدمة دقيقة ولو تدبرتها لوقفت على الحقيقة.
وأنا أقول: متى كان العقل حاكماً على الشرع والدين؟!! لا تفهم مني أنني أريد أن أقلل من قدر العقل، أبداً أبداً، بل إنني ممن ينادي بتقدير العقل وبيان مكانة العقل، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً انصرفت فيه الأمة المسكينة عن التعليم والعلم والتخطيط والتنظيم، وصارت الأمة أمة تعيش عالة على علم الغرب، وأنا لا أنكر ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي والمادي، في الوقت الذي تأخرت فيه الأمة عن الركب العلمي، أنا ممن يقول دائماً بأن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يبارك نور الوحي نور العقل، بل يزكي الوحي العقل، بشرط أن يعلم العقل قدره، وأن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين، فمتى كان العقل على الإطلاق حاكماً على الشرع والدين؟! لله در علي يوم أن قال: لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه.
أنت تمشي بباطن الخف على الأرض، فلو كان الدين بالعقل فإنه لا يجوز لك أن تمسح ظاهر الخف وإنما تمسح باطن الخف؛ لأنه هو الذي وطئ التراب والأرض، لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه.