ثم ظهر الحمل، والراجح من أقوال المفسرين أن الحمل بعيسى كان حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أبداً أن الله جل وعلا قادر أن يجعل مريم تحمل بعيسى وتضعه في لحظة واحدة، نحن لا نشك في ذلك، لكن الصحيح الثابت من أقوال جماهير المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر.
وبدأت بوادر الحمل كما هو معلوم للجميع، وهنا نظر يوسف النجار ذلكم الرجل الذي كان يخدم بيت المقدس مع مريم، نظر إلى بطنها تعلو يوماً بعد يوم فيتعجب! ولكن يدفع عن نفسه هذه الخواطر لعلمه بطهر مريم، ولكنه لم يستطع السكوت فقال لها: يا مريم! إني سائلك عن شيء ولا تعجلي علي، فقالت مريم: سل عما شئت يا يوسف، وقل قولاً جميلاً.
فقال لها: يا مريم! هل ينبت زرع بغير بذر؟! وهل ينبت شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟!!! فقالت مريم: نعم يا يوسف.
قال: كيف ذلك يا مريم؟!! فقالت: يا يوسف! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم أنبته بغير بذر؟! وأنبت الشجر يوم خلقه بغير غيث أو مطر؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟! قال يوسف: أشهد أن الله على كل شيء قدير! وجاء مريم المخاض، وأوشكت على أن تضع هذا الرضيع وهذا الوليد، فخافت وخشيت الفضيحة، فحملت حملها في بطنها، وانطلقت إلى مكان بعيد:{فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم:٢٢ - ٢٣] ولك أن تتصور امرأة ضعيفة تضع لأول مرة، لا يوجد معها أحد إلا الملك، ويا لها من معية، تضع رضيعها عليه السلام، وتبكي مريم وتقول قولاً يقطع الأكباد:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[مريم:٢٣]، ماذا أقول للناس؟! لن يصدقني أحد.
وتبكي مريم، وفي وسط هذه المحنة وهذه الآلام التي تدك الجبال دكاً، تسمع صوتاً رقراقاً رقيقاً جميلاً يسكب في قلبها الأمل، ويثبت في قلبها اليقين، يا إلهي!! من صاحب هذا الصوت؟! إنه صوت الطفل الرضيع إنه صوت عيسى الذي ولد منذ لحظات! ينادي على أمه بهذه الكلمات الطيبة، ويقول لها:{أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم:٢٤ - ٢٦]، لقنت الحجة، وثبت الفؤاد، فحملت هذا الطفل المبارك الميمون الطاهر بكل قوة، وانطلقت به تحمله إلى قومها.
والتف القوم حولها يا للفضيحة!! يا للعار!! يا مريم!! يا أخت هارون في الزهد والورع والتقى والعبادة! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:٢٨] يا للعار! تحملين من الزنا، وبكل بجاحة تأتين بهذا الولد إلينا؟!! يا للفضيحة!! فلما ضاق الحال، وانحصر المجال، وانقطع المقال، عظم التوكل على ذي العظمة والجلال، فأشارت إليه فأنطقه الله في الحال:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:٢٩ - ٣٦].